التعريف بالكاتب:
يُعدّ الدكتور علي سامي النشار (1917‒1980) أحد أهم الباحثين في الفكر الفلسفي المعاصر، والابن البار لمدرسة مصطفى عبد الرازق التي ذهب بمنهجها مذهباً قصياً، من خلال الدفاع عن المنهج الإسلامي الحق الذي ينبغي تلمسه في الأصلين الأصيلين: علم أصول الفقه وعلم الكلام باعتبارهما اللبنة التي قامت على أساسها الفلسفة الإسلامية التي تُعدّ بحق ديوان الأمّة الإسلامية الذي سجل شخصيتهم وملامحهم وحضارتهم[1]. وهو أحد كبار المفكرين الإسلاميين في القرن العشرين، وكان عالما كبيراً شافعي المذهب برع في علم الكلام، والفلسفة، والمنطق، حتى لقّبه البعض بـ«رئيس الأشاعرة في العصر الحديث»، وقد قال في هذا "إنني كمفكر أشعري يرى أن عمله الأساسي في الحياة هو المحافظة على كيان المذهب الأشعري مذهب الجمهور العظيم من المسلمين، وأُنكر القول بأن المذهب الرشدي أقرب عقلا إلى روح الإسلام من مذهب الأشاعرة. إنني أرى أن الأشعرية هي آخر ما وصل إليه العقل الإسلامي الناطق باسم القرآن والسنة، وأن على المسلمين الأخذ بهذا المذهب كاملاً"[2]
هذا، وقد تتلمذ في كلية الآداب جامعة القاهرة على كبار أساتذة الفلسفة والمستشرقين مثل: لالاند، وكورايه. ولكن أحبهم إلى نفسه والذي توطدت الصلة به كان الشيخ مصطفى عبدالرازق الذي كتب في تصديره لكتاب «صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام»: "علي سامي النشار تلميذي وصديقي وأقرب الناس إليَّ". حاضر في العديد من الجامعات والمراكز العلمية في العالم العربي والاسلامي، وقد نالت الجامعات المغربية حظها من علمه فعين بكلية الآداب جامعة محمد الخامس عام 1973م أستاذًا للفلسفة الإسلامية، وظل يعمل بها حتى وفاته في أول سبتمبر( 1980م)، وقد لقي تقديرًا من الأوساط العلمية والرسمية بالمغرب، ونوهت الصحف والمجلات المغربية بمكانته عقب وفاته. وترك رحمه الله للمكتبة العربية العديد من المؤلفات والتحقيقات العلمية والدراسات مازال الباحث في الفكر الإسلامي ينهل منها
التعريف بالكتاب:
نشأة الدين: النظريات التطورية والمؤلهة.
كتب الدكتور علي سامي النشار هذا الكتاب عندما كان مدرس تاريخ الفلسفة بكلية الآداب، جامعة فاروق الأولب الإسكندرية، وأصدره عام 1948، ثمّ طُبع طبعة ثانية بعد وفاته، عن مركز الإنماء الحضاري، فيحلب، عام 1995، ثم أصدرته دار السلام بالقاهرة في 2009. واشتغالنا سيكون على طبعة دار السلام بالتاريخ المذكور.
دواعي اخيار الكتاب:
إن اختيار أي موضوع للاشتغال لايخلو من سبب يدفع الباحث للعمل، واخيارنا لهذا الكتاب لها سباب ذاتية وموضوعية، فمن هذه الأخيرة نشير إلى أن الكتاب يعتبر أو محاولة في اللغة العربية لتأريخ وعرض النظريات الحديثة التي اشتغلت على موضوع "الدين" هذا من جانب، ومن جانب آخر فإننا قمنا بالبحث عن قراءة للكتاب ومدارسته فلم نجد شيئا يخص ذلك، فهناك شح واضح في هذا الباب مع العلم أن الكتاب نفيس ومهم للغاية ويحتاج
إلى وقفات علمية جادة.
إلى وقفات علمية جادة.
قراءة في مضمون الكتاب:
لننقوم بالقراءة التبويبيّة أو الفصلية للكتاب، بل سنحاول تقريب الباحث من مضمون الكتاب تحفيز اًلمزيد من القراءة والبحث في الموضوع. الكتاب من الحجم المتوسط عدد صفحاته 231، وزعت كالتالي: مقدمة الكتاب ثم تمهيد عرض فيه لوضع المشكلة في سياقها المعرفي وخاصة "فكرة الديني" لدى الانسان ومكانة هذا المفهوم في علم الاجتماع،ونظرا لأهمية الديني في حياة الناس جعله "أوغيست كونت" الخطوة الأولى لنمو العقل الانساني.ويعد بهذا العمل من الممهدين والواضعين للأسس التي سار عليها كل من "ليفي بريل" (Lévy Bruhl)في دراسته لطريقة التفكير عند البدائيين، و"إيميل دوركايم" (Emile Durkheim) في بحثه عن الدين في المجتمعات البدائية مميزا بين المقدس (Le sacré) وغير المقدس (Le profane).[3]وقد قسم دوركايم اثر ذلك الظواهر الدينية الى قسمين أساسيين: العقائد (Les croyances) والعبادات(Les rites).[4]أما الأولى فهي حالات فكرية أي مجرد تصورات تعبر عن طبيعة الاشياء المقدسة، وتشكل وحدة الجماعة، بينما الثانية نماذج وطرز من الأفعال جسمية وغير جسمية، وهي تعود أولا وأخيرا الى الجسم وينبغي أن يمارسها الانسان حيال الاشياء المقدسة.
ثم إن الكاتب وقف عند مشكلة المنهج في دراسة الظاهرة الدينية متسائلا: أي المناهج تسيطر على دراسة الاجتماع الديني؟ وأهمية هذا السؤال تظهر جلياً عند تعريفنا لمفهوم "الدين" نفسه، فما هو المنهج الملائم الذي نلجأ اليه في وضعنا للتعريف، هل المنهج الاستبطاني، أم الحدسي أم الموضوعي؟ لهذا سيأكد الكاتب بالقول: إن هذا التعدد دليل على غنى الموضوع وأهميته.
بعد هذا التمهيد المنهجي انخرط الكاتب مع العديد من الباحثين في الموضوع من أمثال: إ. دوركايم، ليفي بريل، باستيد، لالاند، برغسون...الخ مشتبكاً أحياناً وموضحاً أحياناً أخرى ما غمض من مفاهيم وما قد يلتبس على القارئ العربي، متسائلا - في الفصل المخصص لنشأة الاديان وتطورها – عن كيفية نشأة الاديان في الأغوار السحيقة من تاريخ البشر؟ وعلى أي صورة لاح المقدس الغيبي في طفولة الفكر الانساني؟ وإلى أي عصر من العصور البدائية الاولى نتجه؟
إن الاجابة بالتفصيل على هذه الأسئلة تحتاج من القارئ لهذه السطور الرجوع الى الكتاب الأصل للوقوف على مفاصيل كل فكرة وهي دعوة الى قراءة الكتاب قراءة متأنية، لاستخراج ما يبحث عنه القارئ. غير أننا سنحاول في هذه العجالة تجميع قول الكاتب ما أمكننا ذلك لتقريب القراء من الكتاب.
الكاتب وهو يحلل هذه الاشكالات ويناقشها يؤكد على أن الباحث عن دليل واضح وعلمي دقيق عند الحديث عن نشأة الدين،قد لا يجد الا وثائق وآثار متفرقة وغير واضحة، أقيمت عليها مختلف النظريات والفروض والمذاهب الفكرية منذ نهاية القرن الثامن عشر الى يومنا هذا.وتعدد النظريات وتشعبها إنما يدل أوضح دلالة على ما في المشكلة الأصلية من عمق وطرافة، وعلى أن الحسم في المسألة ليس بالأمر الهين. والفكرتان الرئيسيتان المسيطرتان على النظريات الدينية، هما فكرة التطور، وفكرة التوحيد أو الوحي الأول، وبين الفكرتين تنازع مطلق في السيطرة على تلك النظريات وإمدادها بالأساس التي تستند عليه[5].
النظرية الأولى: التطورية؛ وتذهب الى أن فكرة الله وجدت في المجتمعات الأولى على شكل عقائد انبثقت إما من الأفراد وإما من الجماعة، وتريد هذه الفكرة القول: بأن الدين وجد في صورة جماعية أو فردية، ولكنه في كلتا الحالتين من عمل الانسان.وقد حُلّت هذه المشكلة عند التطوريون على ضوء تحليلهم البارع لتطور الحياة الانسانية نفسها، من الأدنى الى الأعلى، فكما ان التطور يسود الحياة البيولوجية للإنسان، فإنه يسود أيضاً الحياة العقلية، فالكائن ينتقل – طبقا لقانون التطور – من ماهية أدنى إلى ماهية أسمى، ومن نوع منحط الى نوع راقي، ومن الأولى أن يتطور في حياته الفكرية، وأن تنتقل من طور الى طور حتى تصل الى كمالها النسبي فما زال في مراتب الكمال المطلق درجات لم تصل الانسانية اليها بعد، والدين عندهم ناحية من النواحي الانسانية الفكرية، بدأ مع الانسانية في سذاجتها، وتطور معها في سلم الحياة حتى وصل الى كماله الحالي.[6]
النظرية الثانية: الفطرية؛ وتذهب الى أن فكرة الله أو الدين على العموم إنما هي فكرة فطرية، وجدت في عقل الانسان ولكن أوجدها فينا موجد يفوق كل الموجودات، وهذه الفكرة تنادي بأن للدين حقيقة خارجية هي الله، منفصلة عن الجماعة، وعن الكون كله. وقد استند هذا الفريق على البحث الاثنولوجي لإثبات أطروحته، وتوصل الى أن فكرة الله موجودة عند كافة المجتمعات البدائية، وأنكر انكاراً باتاً نظرية التطور مستندا على بحث واقعي ودقيق جداً، مدعماً بحثه بوثائق ممتازة عن الحياة البدائية الأولى، وبدا البحث في الموضوع سلساً قوياً قائماً على الواقع من ناحية، وعلى ما ندركه في أنفسنا من ناحية أخرى نحو هذه الفكرة الجليلة النبيلة "الله"، واختفت فكرة التطور اختفاء كاملاً خلال هذا البحث الجليل، ولم يعد ثمة مكان لتطور الدين من ماهية الى أخرى، كما لم يعد مكان في كثير من الأبحاث الفيزيولوجية والبيولوجية لتطور كائن من ماهية ونوع الى كائن من ماهية ونوع آخر[7].
خلاصة:
بهذه العجالة السريعة نكون قد عرجنا على كتاب الدكتور علي سامي النشار؛نشأة الدين: النظريات التطورية والمؤلهة.مؤكدين على أهم المضامين الواردة في الكتاب دون الدخول في تفاصيله، والكتاب يعد مهما في بابه لمن أراد التعرف على النظريات الاجتماعية والفلسفية في ما يخص دراسة الظاهرة الدينية ولا غنى عنه للباحث المبدئ والمتعمق على السواء.
وإذا أردنا تجميع القول فيما سبقت الاشارة اليه، نؤكد أن زخم النظريات التي اهتمت بموضوع الدين تؤكد على ضرورته بالنسبة للإنسان، وكثرة الانتاجات الفكرية في الوقت الراهن دليل على راهنيته وقوته في المجال العام، ولا شك أنه القوة الحاسمة والنهاية للعديد من المشكلات الاجتماعية عندما يبنى بناء صحيحاً في نفوس الأفراد والمجتمعات، وهذا لا يعني تغييب أو التملص من القوى المؤثرة الأخرى منها: الاقتصادية والاجتماعية والأمنية...الخ، فإذا اجتمعت هذه القوى في أيادي آمنة مهتمة بالإنسان وفي خدمة الانسان مع وضوح الفكرة الدينية يمكننا الحديث عن "حياة مدنية سلمية"، وكي تتحقق هذه الأخيرة لا بد من إزالة اللامساواة الاقتصادية الجسيمة، والاذلال الاجتماعي، والحرمان من الحقوق السياسية، التي يمكنها أن تساهم في توليد النزاع والعداوة.
لما ذكر وغيره من العوامل يصبح الحديث عن الظاهرة الدينية وقوتها في المجال العمومي اساساً لفهم ما يجري حولنا من ظواهر اجتماعية خانقة، وتجاوزها يحتاج منا الى ثلاثة محطات أساسية فيما يخص التعامل مع الظاهرة الدينية؛ المحطة الأولى من أجل التعرف على الظاهرة الدينية، والثانية من أجل الاستيعاب والفهم والتمكين، والثالثة من أجل التجاوز والتصحيح، ونقصد بالتجاوز وضع التأويلات البشرية موضعها والنصوص المقدسة في مكانها الصحيح. وهذه القراءة تحتاج الى عقلية منفتحة مستوعبة لكل المشاريع الفكرية دون تعصب وانغلاق.
الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة ذ: سعيد السلماني
[1] محمد أيتحمو، تصور مدرسة مصطفى عبد الرازق للفلسفة الإسلامية (مقال)، موقع:http://www.mominoun.com/
[3] النشار علي سامي، نشأة الدين: النظريات التطورية والمؤلهة، ط، 2009، دار السلام ، ص، 19-20 .
[4]وهي تساو يما يسميه فقهاء المسلمين بالأصول والفروع.
[5] نفس المرجع السابق، ص، 8.
[6] نفسه، ص، 36، 8.
[7] نفسه، ص، 9، 10.