في رحاب العلوم الانسانية  في رحاب العلوم الانسانية
recent

آخر المقالات

recent
random
جاري التحميل ...

جوانب من تراثنا اللامادي طقس الحاكوز نموذجا

جوانب من تراثنا اللامادي طقس الحاكوز نموذجا


جوانب من تراثنا اللامادي طقس الحاكوز نموذجا

        تمهيد:

يعد مفهوم التراث من المفاهيم الكبرى في ثقافتنا، ويشير إلى ما "خلّفه الأجداد والحضارات السابقة من مظاهر تراثية مادية أو غير مادية لتكون جسرا موصولا بين الماضي والحاضر" ([1]). وهو بهذا المعنى صلة وصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، وجزء لا يتجزأ من هوية الشعوب، فالتراث إذن، "معين ثري لا ينضب من المعرفة، ومصدر الهوية. والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، فكلما غاصت وتفرعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمن. ومن الناحية العلمية هو علم ثقافي قائم بذاته يختص بأحد قطاعات الثقافة، ويُلقي الضوء عليها من زوايا أثرية وتاريخية وجغرافية واجتماعية ونفسية" ([2]). والتراث الثقافي المغربي في شقيه المادي واللامادي يعتبر مفخرة للإنسان المغربي ودليل على استمراريته في التاريخ الممتد لقرون طويلة، وجزء لا يتجزأ من سيادته على مجاله الثقافي والسياسي.

وبما أن حديثنا في هذه المقالة سيدور حول طقس الحاكوز كجانب من جوانب ثقافتنا اللامادية، فإنه يحسن بنا التعرف على دلالته وكيفية اشتغاله في الجسم الثقافي المغربي. فهذه الاحتفالية تحمل العديد من المسميات لطقس احتفالي واحد، يسمى الحاكوز أو حاكوزا أو "الناير" أو "لعواشر". فما المقصود بالحاكوز أو الناير؟ وكيف ترسخ هذا الاحتفال في ثقافة المغاربة؟ وما هي التحولات التي طرأت عليه؟ وما دلالته الرمزية في ترسيخ الهوية الثقافية للمغاربة؟

في دلالة طقس الحاكوز:

يعتبر الحاجوز طقسا متجذرا في الثقافة المغربية، لكن بداياته الاحتفالية غير معروفة، وحقيقة هذا الاحتفال تعود إلى آلاف السنين تجسد في الأخير مظهرا من المظاهر الثقافية وشكلا من الأشكال التعبيرية، وتقليدا راسخا في ممارسات الأشخاص والعائلات ([3]). فالحاكوز هو طقس تحتفل فيه الأسر المغربية بيوم "يقسم فصل الشتاء إلى نصفين، حيث يتموقع في الليلة الأخير من السنة الشمسية التي هي ليلة يناير الفلاحي، الموافق لـ14 يناير الميلادي، وسميت بالحاكوز لأنها تحجز بين السنة الماضية والسنة المقبلة")[4](. وهذا الاحتفال له ارتباط وثيق بالأرض ودلالته الرمزية كلها احتفاء بالطبيعة وخيراتها لهذا يصاحب بداية السنة الفلاحية المعروف عند الأمازيغ بـ:"ينّاير" وهو مصطلح أمازيغي مكون من مقطعين "ين" وتعني واحد أو الأول و "آيير" وتعني الشهر؛ أي بداية الشهر([5]).

 كيف يحضر هذا الطقس في منطقة "جبالة"[6]؟

على غرار العديد من المناطق الأمازيغية المغربية فقد حافظت الأسر الجبلية على طقس الحاكوز محتفية به كتراث ثقافي لامادي توارثته الأجيال، ويحضر في الثقافة الجبلية على أنه عيد محلي يرقى إلى الوطنية، إذ تتهيأ الأسر لاستقبال الحاكوز بتحضير بعض الأكلات التي لا تأكل الا في هذا اليوم، وتتبادل فيه الزيارات العائلية، والاحتفالات الجماعية، وهو يوم عطلة تتوقف الدراسة في المحضرة،  وتقام الولائم وترفع الدعوات على شرف أهل القرآن وبركتهم لأهل القبيلة أحياء وأمواتاً ولأمير المؤمنين وكافة المسلمين.

وفي اتصال هاتفي مع والدتي أطال الله في عمرها ذكرتها بالحاكوز فبدأت الذكريات الجميلة تنساب على لسانها، والتحسر على أيام الخير والبركات..، إييه يا ولدي لم يبق من تلك الأيام سوى هذه الذكريات، وتساءلت فجأة: هل ما زال اليوم من يحتفل بالحاكوز؟ أجبتها نعم هناك بعض الأسر في مناطق متفرقة من المغرب، وأن السياسة الثقافية بدأت تثمن هذه التراث وتعمل على صونه لكونه من أدوات ترسيخ الهوية الثقافية المحلية والوطنية. لكن في قبيلتنا هذا الطقس بدأ يندثر ولا بد من تدخل المجتمع المدني لإحيائه. فضحكت وقالت: مكرهناش أولدي شي زلافة "شرشمن" أو "تحلالّا".

يتجسد هذا الطقس في منطقة جبالة على شكل احتفاء رسمي على مدار يومان أو ثلاثة أيام على الأكثر. في اليوم الأول يتم تحضير شربة "شرشمن" وتتكون من خليط الشعير والفول (البيصارة)، يطهى الشعير وحده والبيصارة وحدها ثم يتم خلطها وإضافة زيت الزيتون. ثم تجتمع العائلة للاحتفاء بهذه الأكلة في جو يسوده الفرح والسمر على حكايات الكبار الهادفة (تاخرافت/ تخرايف).

في اليوم الثاني يتم تحضير "تحلالاّ" أي خبز المقلة مزين باللوز أو الجوز وهي أكلة تعطى للأطفال والاحتفاء بهم، لهذا تجد الأطفال ينتظرون هذا اليوم ويفرحون بقدوم الحاكوز. وفي المساء فتكون الذبيحة من الدواجن مع الحمص والفول، ويقدم مع طبق من اللوز والجوز والتين المجفف والزبيب، وهذا الخليط من المأكولات هي وجبة العشاء، وتبقى هذه العملية من اختصاص النساء وهو متوارث عبر الأجيال ([7]).

لماذا يجب الحفاظ على طقس الحاكوز؟

يقول البعض محاجّاً بأن العودة إلى الماضي تخلفاً وانتكاساً، فلا بد من السير إلى الأمام وترك هذا الموروث يندثر، لأن التقدم التقني اليوم لم يعد يسمح بالعودة إلى مثل هذه الطقوس المتخلفة. إن العديد من المصطلحات التي استخدمت للدفاع عن أيديولوجية ما في وقت من الأوقات كمصطلح التخلف، لم تعد حجة قوية في الدفاع عن أطروحة ما. فعادات الناس وأعرافهم وتقاليدهم هي نبض المجتمع وحياته. وعليه، فطقس الحاكوز يحمل دلالات رمزية تعبر عن هموم الناس وقضاياهم الاجتماعية والاقتصادية.

من هذا المنطلق نجد العديد من الدول التي قطعت شوطا كبيرا في التقدم الاقتصادي والتقني في طليعة الدول التي تهتم بتراثها الثقافي اللامادي، وتعمل على جرده وصونه، وتسخر التقنية والعلم في ذلك، لأنها انتبهت أخيرا إلى أهميته الاقتصادية، وإلى حفظ مجتمعها وتمايزه عن غيره، وربط أفرادها بمحيطهم الاجتماعي أملا في خلق هوية ثقافية جامعة.  

وبناء عليه، فإن النبش في التراث اللامادي وصونه هو بحث في "التأصيل الثقافي والاجتماعي"([8]). ذلك أن الانسان كائن اجتماعي بطبعه، ومن ثم فالبحث في التقاليد الشفهية، وفنون الأداء، والممارسات الاجتماعية والطقوس والمناسبات الاحتفالية، والمعارف والممارسات المرتبطة بالطبيعة والكون، والمعارف والمهارات المرتبطة بإنتاج الصناعات الحرفية التقليدية للمنطقة، هو بحث في الهوية الثقافية؛ إذ لا يمكن الفصل بين الهوية الثقافية والتنوع الثقافي، فالهوية الثقافية هي المجال الذي تحيا فيه الثقافة كحقيقة ذاتية، وتعي فيها الجماعة نفسها بوصفها ذاتاً([9]). فاستحضار طقس الحاكوز والاحتفاء به، هو تثمين للذاكرة الجمعية التي باتت تعيش تحت تهديد العولمة والاستلاب الثقافي. فالهدف الأسمى من الاحتفاء بطقس الحاكوز هو ربط الحاضر بالماضي وتعريف الأجيال الحالية والقادمة بغنى وتنوع الموروث المغربي باعتباره رأسمال ثقافي كبير وجب صيانته وتثمينه ([10]).

وخلاصة القول: إن طقس الحاكوز كغيره من الطقوس الثقافية التي يزخر بها المجتمع المغربي يجب تثمينه وصونه من الاندثار، لأنه تراث ثقافي يرقى إلى الإنسانية. وإذا كان الأمر كذلك، فهو إذن، تراث عابر للزمان والمكان؛ أي تراث حي شأنه في ذلك شأن الثقافة عامة، فهو في تغير مستمر، كما يتميز بالأصالة، لأنه يعتبر مظهراً انثروبولوجياً خاصاً بجماعات أو أفراد معينين يجب احترامه وتقديره لقيمته الثقافية وكونه اغناء لثقافات أخرى. كما يتميز أيضا بارتباطه الوثيق بالمجتمعات المحلية، فهي الوحيدة التي تملك حق التصرف فيه ([11]). ومن هذا المنطلق، فإن أهميته تكمن في دوره الفعال في تغذية العقل الجمعي ومده بالقيم، إلى جانب إسهامه في تشكيل الوعي العام، ولهذا كان الحفاظ عليه ونشره ونقله عبر الأجيال والحرص على ضمان استمراريته مسؤولية الجميع بلا استثناء.

الكاتب: سعيد السلماني/باحث في العلوم الاجتماعية


[1]  الجبوري صلاح وآخرون، التراث الثقافي اللامادي لبدو العراق في بادية غرب نهر الفرات، دار الآداب للطباعة والنشر، ط1، 2022، ص، 4.

[3] حيرش بغداد ليلى أمال، الأشكال التعبيرية للتراث في المجتمع الجزائري "عادة الاحتفال بالناير" ضمن الكتاب الجماعي (الموروث الشعبي والهوية الوطنية) اشراف د براهيم أحمد، ط 2014، جامعة مستغانم الجزائر،  ص، 20.

[4]  د. معاذ البكوري، ملامح من الثقافة الشفوية في شمال المغرب الأقصى قبائل غمارة نموذجا، مجلة حوليات التراث، العدد 18، 2018، ص، 14.

[5] حيرش بغداد ليلى أمال، مرجع سابق، ص، 21.

[6]  جبالة تطلق على مجموعة من القبائل في شمال المغرب تتميز بصعوبة التضاريس الجبلية.

[7] البكوري مرجع سابق، ص، 14.

[8]  ابلال عياد، مغرب الأمس مغرب اليوم: أنثروبولوجيا التأصيل والهوية في المجتمع المغربي، مجلة الثقافة المغربية، عدد، 39، يونيو 2019، ص، 11.

[9]  مرسي أحمد علي، صون التراث الثقافي غير المادي أرشيف الحياة والمأثورات الشعبية مصر نموذجا، المجلس الأعلى لثقافة القاهرة، ط1، 2013، ص، 17.

[10]  أبلال عياد، مرجع سابق، ص، 11.

[11]  صلاح الجبوري وآخرون، مرجع سابق، ص، 7.

عن الكاتب

في رحاب العلوم الانسانية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

في رحاب العلوم الانسانية