المحور الثالث: الحقيقة بوصفها قيمة
المحور الثالث:
الحقيقة بوصفها قيمة
اشكال المحور: كيف تتحدد
الحقيقة باعتبارها قيمة؟ وهل هي غاية في ذاتها؟ أم هي وسيلة لتحقيق ما يخدم
الانسان؟ وهل تتحدد قيمتها بما أخلاقي أم بما هو عملي؟
معالجة
الاشكال:
إن الفكر أميل
إلى القول بأهمية الحقيقة وقيمتها النظرية والعملية، وأن طلبها فضيلة، لأنها قيمة
أخلاقية مطلقة كما يقول كانط الذي يعتبر الكذب رذيلة. لقد تميزت الفلسفة
التقليدية باعتبار الحقيقة غاية في ذاتها، وسينهار هذا التصور التقليدي لقيمة
الحقيقة بعد ظهور الفلسفة البراجماتية التي تعتبر قيمة الحقيقة متجلية في كل ما هو
نفعي عملي ومفيد في تغيير الفكر والواقع. فقيمة الحقيقة لا تتحدد في ما تقدمه من
صدق ويقين، بل إنها ما تكشفه من أشكال اللاحقيقة، كالوهم والخطأ والكذب
والعنف...الخ.
يلاحظ من خلال
استقراء تاريخ الفكر الإنساني، لا توجد حقيقة بمعزل عن اللاحقيقة. فالحقيقة
العلمية مثلا لم تستطع أن تعيش بمعزل عن الأخطاء، ففكرة مركزية الأرض ظلت مهيمنة
على العقول، إلى أن تم اكتشاف خطئها، "فتاريخ العلم هو تاريخ أخطاء
العلم" حسب غاستون باشلار.
أما الوهم فهو
أخطر من الخطأ لأنه يصعب اكتشافه بسهولة لما يحققه من رغبات وجدانية ونفعية
للإنسان، لذا أكد نيتشه أن الوهم يتولد عن حاجة الانسان إلى أن يوفر لنفسه
حياة سليمة وآمنة لأن أساس الوجود البشري قائم على الصراع من أجل البقاء، وحب
البقاء يدفع الانسان إلى استخدام عقله من أجل انتاج الوهم لأن الحقيقة مرة وقاتلة.
وتعتبر اللغة الأداة الفعالة التي تعتمد عليها الانسان في صناعة الوهم لأنها
تستخدم أساليب استعارية مجازية.
هناك مقابل
آخر للحقيقة وهو العنف كما يقول إيريك فايل الذي يعتبر أن مشكل
الحقيقة ليس هو مدى تطابق الفكر مع الواقع، بل تطابق الانسان مع الفكر، أي مع
الخطاب المعقول والمتماسك. فنقيض الحقيقة إذن، ليس هو الخطأ وإنما العنف الذي يعني
رفض الحقيقة والمعنى والتماسك. لذا فقيمة الحقيقة تكمن في مناهضة العنف والشقاء،
وبناء معنى حول الوجود والعالم عن طريق خطاب عقلي متماسك وعمل منظم ومعقول. فالإنسان يعيش في عالم
مليء بالعنف والشقاء والتقتيل والجوع، وعليه أن يفكر في هذا العالم من أجل انتاج
حقيقة ومعنى له، بواسطة خطاب معقول يهدف إزالة العنف وتجسيد قيم التسامح والعقل
على أرض الواقع.
في حين يربط ميشيل
فوكو الحقيقة بالسلطة ويرى أنها لا توجد خارج السلطة، بل هي
السلطة نفسها، لأنها ناتجة عن إكراهات متعددة، وفي هذا يقول: " إن الحقيقة لا
توجد خارج السلطة ولا تخلو من سلطة"، يعنى أن عمل الحقيقة لا يمكن فصله عن المؤسسات
السياسية والتربوية والاقتصادية والعسكرية… التي تنتجها وتنشرها بين الناس، وتصبح
الحقيقة سلطة تمارس، وتفرض ذاتها وهيمنتها عبر آليات اشتغال الخطاب المهيمن
(العلم، الدين، السياسة…).
نسجل إذن، اختلاف
تصورات المواقف الفلسفية بصدد الحقيقة وقيمتها وهو اختلاف يؤكد طابعها النسبي الذي
يعكس نسبية المعرفة الإنسانية بصفة عامة.
prf Selmani Said
التالي:
المجزوءة الثالثة: السياسة