يشكل التفكير في مفهوم الشخص امتدادا لتفكير فلسفي اتخذ في كتابات الفلاسفة المحدثين اسم "الذات" وبالرغم من ان التساؤل عن ماهية هذا المفهوم، يتم من لدن الإنسان نفسه، فهو من يبحث في موضوع لا ينفصل عنه اطلاقا، فان البحث عن محددات واضحة وثابتة، تتحذ بموجبها حقيقة الشخص ووحدته، قد طرح مجموعة من الاشكالات، كان أبرزها ذلك المتعلق بالهوية الشخصية او الذاتية، فعلى اي اساس اذن تقوم هوية الشخص، هل على ما هو قار وثابت ام على ما هو متغير ومتعدد؟
نص جون لوك: الهوية والشعور
يندرج هذا النص
في اطار الفلسفة التجريبية التي يعتبر "جون لوك" احد روادها البارزين. ويؤكد لوك على أن العقل لا
يمثل جوهر الذات، فهو مجرد صفحة بيضاء تنقل إليه معطيات الواقع الخارجي عن طريق
التجربة والحواس. ومن ثم فإن الطرح الذي يقدمه لوك فيما يخص الهوية الشخصية لا
ينفصل عن هذا السياق المعرفي التجريبي، وذلك من خلال التركيز على أهمية الشعور
(الوعي) والذاكرة. أي الفكر بما هو إحساس. حيث ذهب إلى أن الأساس المحدد لمسألة
الهوية يكمن في وجود ترابط وثيق بين الإحساس والفكر، حيث يكون الشخص هو هو، فقط
إذا كان له إحساس تام بكونه من ينتج أفكاره وأفعاله في كل زمان ومكان، ذلك أن حصول
الهوة بينهما معناه فقدان الشخص لوحدته وتطابقه.
ولتشييد هذه الأطروحة سيعمد الكاتب إلى استحضار
مجموعة من المفاهيم الأساسية أبرزها: مفهوم الشخص باعتباره كائنا مفكرا وعاقلا
ومتأملا.. وبوصفه ذاتا تتمتع بهوية ثابتة تميزه عن كل كائن مفكر آخر. كما وظف
مفهوم الشعور والذي من خلاله يمركز الإنسان ذاته ويبني معرفته بها على نحو دائم،
فيصبح الشخص على إثرها هو هو رغم ما يلحقه من تغير. إن هذا الاقتران الحاصل بين
الفكر والشعور هو ما يجعل الشخص هو هو رغم ما يلحق الذات من تغيرات.
ولإثبات هذا
الطرح سيلجأ الكاتب إلى اعتماد بنية حجاجية قوية تتخذ من آليتي التعريف والتفسير
منطلقا لها، من خلال التحديد الذي أعطاه لمفهوم الشخص بكونه الكائن الذي يعقل
ويفكر ويتأمل.. مبرزاً أهمية المعرفة الحسية التي تصاحب إدراكات الشخص الراهنة
التي بها يكون بها كل واحد منا هو نفسه بالنسبة إلى ذاته. بالإضافة إلى الأدوات
اللغوية كالنفي والتأكيد...الخ.
إن قيمة هذه
الأطروحة تكمن إذن في جعل قيمة الشخص لا تخرج عن كونه كائن عاقل ومفكر، فالإنسان
قادر على تعقل العالم وتأمل مجتمعه في كل زمان. فإلى أي حد يمكن الاتفاق مع هذا
الطرح؟
إذا كانت
أطروحة "ج لوك" من خلال تركيزها على أهمية الوعي والذاكرة شكلت لحظة
حاسمة في تناول إشكال الهوية الشخصية، فإن العديد من الفلاسفة فيما بعد سيعملون
على تأكيدها أو نقدها. وهكذا سنجد فلاسفة مثل "لاشوليي" يؤكدون على
أهمية الوعي / الذاكرة. فلاشوليي يجعل من الذاكرة بجانب دوام الطبع، أساس هوية
الشخص.
لكن في
المقابل هناك مواقف فلسفية انتقدت أطروحة "ج لوك" بسبب إقصائه لأهمية
الجسد في تفسير استمرارية وحدة الهوية الشخصية، بل والسقوط في ثنائية النفس /
الجسد كما عبرت عنها فلسفة "ديكارت"، وهذا هو النقد الذي وجهه
"ليبنتز" لفلسفة "ج لوك". وبجانب مواقف فلسفية منتقدة نجد
فلاسفة قدموا تفسيرات جديدة ومغايرة كما هو الشأن مع "شوبنهاور" في
كتابه "العالم بوصفه إرادة وتمثلا". إذ يرى أن أساس الهوية الشخصية، ليس
هو الجسم أو الذاكرة أو الشعور أو الفكر، وإنما هو الإرادة، فهي وحدها ما تبقى
صامدة في وجه كل التحولات، وما سوى ذلك فكله قابل للزوال والتلاشي. فحسبه، ليس
هناك شيء يبقي الذات هي هي سوى الإرادة، أي إرادتها في الحياة وإعراضها عن كل ما
يحد من الإقبال عليها، فالشخص لا يفقدها تماما، فهو منذ مجيئه إلى العالم يمتاز
بانفتاح مطلق ولا محدود على الحياة، لذا تجده يهرب من الأخطار التي يمكن أن تضع
حدا لاستمرار وجوده؛ لكن ألا يخفي القول بتطابق الذات ووحدتها جهلا بالآخر
وبالعالم؟ فالذات لا تعيش في العالم معزولة، وإنما وسط الآخرين، فقدرها قد تحدد.
ولما كان الأمر كذلك فقد غدا من البديهي أن يكون للغير دخلا واضحا في تشكيل
هويتها، مما يدل أنها ليست نتاجا لمعطى واحد ووحيد؛ وإنما هي مجال يتسع لمعطيات
متعددة ومختلفة.
نخلص من
خلال هذا النقاش إلى أن لمسألة الهوية امتدادات واسعة ومتعددة، فمن جهة ليس هناك
من يشكك في أن حقيقة الشخص وماهيته ثابتة؛ ومن جهة أخرى لا يمكن القطع بكون الهوية
شأنا شخصيا محضا، على اعتبار أن الذات تتلقى تأثيرات قوية من الآخر ومن المحيط،
وهو ما ينعكس مباشرة على مستوى سلوكها ونمط تفكيرها؛ غير أن القول بتطابق ووحدة
الشخص سيوقعنا لا محالة في مأزق "الواحدية"، أي الانغلاق على الذات؛ ومن
ثم حرمانها من الاستفادة من تجارب الغير وإبداعاته، كما أن ذلك من شأنه أن ينمي في
كل شخص الشعور بالأنانية وكره الآخر ونبذه.
ذ/سعيد السلماني