في رحاب العلوم الانسانية  في رحاب العلوم الانسانية
recent

آخر المقالات

recent
random
جاري التحميل ...

المحور الأول: وجود الغير

المحور الأول: وجود الغير

المحور الأول: وجود الغير

إذا كان وجود الغير ضرورة ملحة كي يتحقق وعي الأنا بذاته، فما الذي يميز وجوده؟

بما أن الأنا لا يوجد وحده معزولا في العالم فإن الغير يصبح ضرورة أنطولوجية ومعرفية، وشرط وجودي ضروري للذات، ذلك أن العلاقة مع الغير بعد أساسي لدى كل انسان إلى درجة أنه يمكن اعتبار هذا البعد فطريا لدى الكائن البشري.

هذا الاشكال لم يعالج بشكل واضح الا في الفلسفة الحديثة بدءاً من "ديكارت" الذي اعتبر الأنا أفكر مستقلا عن وجود الغير الذي يتوقف وجوده على حكم العقل واستدلاله، أي وجود الغير افتراضي استدلالي محتمل وقابل للشك، لأن ديكارت من القائلين بوحدانية الذات (Solipsisme) أنا وحدي موجود.

ومعنى ذلك، فإن الذات في غنى تام عن الغير، فوضوح وجودها ويقينه قد تحقق بفضل مقوم ذاتي وليس خارجي، فهي جوهر منفصل عن العالم وعن الآخرين. وقد عبر ديكارت عن هذا بقوله: "أنظر من النافدة فأشاهد بالصدفة، أناسا يسيرون في الشارع، فلا يفوتني أن أقول، عند رؤيتهم، أني أرى أناسا بعينهم، ومع أني لا أرى من النافذة غير قبعات ومعاطف قد تكون غطاء لآلات صناعية تحركها دوالب، إلا أنني أحكم بأنهم أناس. وإذن أنا أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت أحسب أني أراه بعيني".

في مقابل ذلك، حاول "هيجل" تأسيس فلسفة للوعي يحتل فيها مفهوم الغير موقعا مركزيا، يقول هيجل: "لكي أتوصل الى حقيقة كيفما كانت حول ذاتي، لا بد لي أن أمر عبر الغير. إن الغير وسيط ضروري بيني وبين ذاتي، فلا غنى لي عنه لوجودي ولمعرفة هذا الوجود.." أي لا بد من وساطة الغير من أجل تحقيق اعتراف كامل بالذات، ويعود ذلك إلى أن انغلاقها على نفسها يجعلها ذات وعي ساذج لا يفوق وعي الأشياء بذاتها. فالوعي حسب هيجل يسعى دائما إلى الاعتراف به من طرف وعي آخر، وهذا الاعتراف يمر عبر آلية "الصراع الجدلي" المستمر. هكذا يصبح وجود الغير ضروريا لوجود الأنا ومكوناَ له، فالآخر لا غنى عنه لوجودي كما لا غنى لي عنه في معرفتي لنفسي.

وفي سياق الاعتراف بضرورة وجود الغير ذهبت أبرز التيارات الفلسفية المعاصرة كالوجودية([1]) (هيدجر وسارتر) والظاهراتية[2] (هوسرل وميرلوبونتي) إلى التأكيد على حضور الغير كوجود مزدوج؛ أي:

 كوجود سلبي "لأنه يحد من حرية الأنا ويولد الخجل"، فالذات تفقد هويها كاختلاف عندما توجد في الحياة الجماعية المشتركة مع الغير، لأن هذا الأخير حسب هيدغر يفقده كينونته الخاصة، وتصبح الذات أو الأنا تحت رحمة الغير الذي يمارس هيمنة وسيطرة خفية على وجودها الخاص.

وكوجود إيجابي لأنه كمال للأنا في إدراك وجوده؛ فرغم أن وجود الأنا مع الغير يشكل تهديدا لوجودها، فإن هذا الغير يعتبر الوسيط الضروري الذي تكشف من خلاله الذات وجودها وتدرك ذاتها. هكذا يؤكد سارتر أن الغير لا ينظر إليه كموضوع فقط بل إنه أيضا وعي مثلي، فـ"الغير هو من ليس إياي وهو من لست أنا إياه" على حد تعبيره.

نسجل إذن اختلاف التصورات الفلسفية ونحن بصدد الحديث عن وجود الغير، لكن رغم أن الغير يولد الخجل ويفقد الذات خصوصيتها إلا أن وجوده يبقى أمرا حتمياَ لا غنى عنه في معرفة الذات لنفسها. كما يمكن القول بأن الغير ليس أنا آخر أو أنا مغاير، بل هو عالم منفتح أمامي كي أكتشفه وأجرّبه، وهذا يطرح مسألة معرفته، فهل الغير قابل للمعرفة؟



[1] الوجودية تيار فلسفي معاصر يدافع باستماتة عن الإرادة الحرة للإنسان وحرية الاختيار ورفض القول بالإكراه والالزام والضرورة.

[2] الظاهراتية  Phénoménologie: تيار فلسفي معاصر يهتم بدراسة الوجود في ظاهره، دون النفاذ إلى باطنه وعمقه، أو البحث عن علله ومبادئه الأولى، أو رصد الأمور المجردة التي توجد ما وراء الطبيعة، بل تحاول الظاهراتية أن تنساق وراء البحث العلمي الطبيعي والرياضي.

عن الكاتب

في رحاب العلوم الانسانية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

في رحاب العلوم الانسانية