تقديم :
استطاع الإنسان أن يحقق انجازات ملموسة وأن يصل إلى نتائج متقدمة في العلوم الطبيعية التجريبية، لكن مع ظهور العلوم الإنسانية في القرن 19 كاهتمامات تسعى إلى التخلص من الخطاب الفلسفي التأملي الميتافيزيقي حول الإنسان والتشبه بالعلوم الحقة التي نجحت في انفصالها عن الفلسفة وفي تحقيق رفاهية الإنسان. لكن الفرق بين العلوم الطبيعية والعلومالإنسانية هو أن هذه الأخيرة تتخذ من المادة موضوعها بينما تنصرف الأخرى إلى موضوعالإنسان ذاته. من هنا ينبع الإشكال التالي:
إذا كانت الظواهر الطبيعية محكومة بمبدا العطالة تقبل الدراسة والبحث والتجريب والتكرار بحسب ارادة الباحث فهل تستطيع العلوم الانسانية أن تعامل موضوعها نفس المعاملة؟ وهذه ظاهرة واعية إرادية لا تقبل التكرار ولا تخضع للاضطراد ومنه هل يمكن تحقيق مبدأ الموضوعية داخل حقل العلوم الانسانية وهل النظريات الانسانية تفسر السلوك الانساني أم تكتفي بوصفه ؟وهل نموذج للعلم داخل هذه الاهتمامات؟
المحور الأول: الموضوعية في العلوم الإنسانية
1-موقف لوسيان غولدمان: مشكلة الفهم الموضوعي في العلوم الإنسانية
إذا احتل الإنسان موقع موضوع المعرفة في العلوم الانسانية وموقع الدارس لها في نفس الوقت فهل يمكن أن يتناول موضوعه بموضوعية؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن أن ينظر إلى موضوعه كشيء مستقل عن ذاته؟
هناك فروق نوعية بين البحث في العلوم الحقة والبحث في العلوم الانسانية ففي الأولى تحتفظ الظاهرة المدروسة بوحدتها وثباتها وانسجامها ولا تصطدم بمصالح وقيم الناس لكن الثانية تعاني من تعطيل مبدا الموضوعية حيث يعترض عمل الباحث او العالم مجموعة من العوائق الشخصية الفكرية والنفسية والإيديولوجيا (مثل غياب روح النسقية، انعدام الرؤية النافدة، الغرور والطبعالانفعالي، غياب النزاهة الفكرية) بالاضافة الى المواقف والاراء والقناعات اللاشعورية التي لا تفارق تفكير الباحث . لهذا يرى لوسيان غولدمان أنه لا يمكن لتطبيق المنهج الديكارتي أن يحقق الفهم الموضوعي للظاهرة الانسانية وذلك "لأن الباحث يتصدى في الغالب للوقائع مزودا بمفاهيم قبْلية ومقولات مضمرة ولا واعية تسد عليه طريق الفهم الموضوعي بشكل قبلي"
نستنتج إذن أن الباحث في العلوم الانسانية لا يستطيع أن يتخلص من إملاءات اللاشعور الثاوية في عمق بنيته النفسية والفكرية، وبناء عليه لا يمكن تحقيق تصور دوركايم في النظر إلى الظاهرة الإنسانية كشيء.
2- - موقف رينيه بوفريس: استحالة تحقيق الموضوعية في العلوم الانسانية
تؤكد بوفريس أن الفلسفة الوضعية أخفقت في زعمها إمكان تحقيق شرط الموضوعية في العلوم الانسانية لما اعتبرت أن الفكر العلمي قد حقق آخر الفتوحات العلمية لما تخلَّص من الميتافزيقا والفلسفة المجردة بصفة نهائية، وطردها من آخر حصونها (الإنسان)، فكان تاريخ الفلسفة هو تاريخ تراجعاتها كما يقول أوغست كونت، فرأت الوضعية أنه بإمكان تحقيق الدراسة العلمية الموضوعية الدقيقة للإنسان كواقع اجتماعي ملموس بعيدا عن السقوط في الذاتية، وذلك بتجنب إقحام "الفرضيات غير المحققة والتعميمات الاعتباطية" في المعرفة. لكن السؤال الإشكالي الذي تطرحه رينيه بوفريس على الفلسفة الوضعية هو: هل تستطيع العلوم الإنسانية أن تحقق الاستقلالية والموضوعية كما الشأن في العلوم الحقة؟ أم أنها تحتفظ بموضوعية خاصة وناقصة؟
تجيب رينيه بوفريس بأن المعرفة المتعلقة بموضوع الإنسان تظل مشبعة بالذاتية ولا تملك أن تكون محايدة أو موضوعية ، حيث تؤكد أنه من المستحيل مبدئيا أن تتمكن العلوم الانسانية بلوغ موضوعية مطلقة أو على الأقل التخلي عن جزء من أهدافها والاكتفاء بدراسة المظاهر الأولية من الحقيقة أو الواقعة الإنسانية.
المحور الثاني: الفهم والتفسير
1- موقف جيل غاستون غرانجي: محدودية منهج الفهم
للجواب عن سؤال ماهي وظيفة النظرية؟ هل هي الفهم أم التفسير؟ يقدم غرانجي تصورين أحدهما يعتبر أن وظيفة النظرية هي التفسير، أي "كشف العلاقات الثابتة التي توجد بين عدد من الحوادث والوقائع، واستنتاج أن الظواهر المدروسة تنشأ عنها" والآخر يسمى الفهم ويعني صورنه الوقائع والحوادث في صياغات رمزية رياضية، أو بعبارة أخرى تكميم الواقع عبر تأويله تأويلا يفيد تحقيق الفهم للسلوك الإنساني .
رغم ما للتفسير من قيمة في تحويل الحوادث إلى خطاطات صورية فانه لاينبغي تجاوز حدود العلم الى الأسطورة والسحر . فكل بحث أو دراسة تتعلق بالعلة والسبب هي دراسة لاعلمية. ورغم ماللفهم من قيمة في نقل صور حدسية عن انفعالات الإنسان وعواطفه ومواقفه فإنه عاجز عن تحقيق غايته المتمثلة في فهم جميع الظواهر، حيث اذا ما ادعى ذلك فانه خرج عن العلم إلى اللاعلم . يقول غاستون غرانجي: "الرغبة في فهم جميع الظواهر تجنح بالمعرفة في متاهات الأسطورة والسحر، فالذهنية البدائية هي بالظبط الذهنية التي ترمي إلى فهم كل شيء"
وهذا يعني أن الفهم نشاط عقلي عاجز عن استيعاب جميع الظواهر الإنسانية فيزيائية كانت أو ذهنية. وذلك راجع أساسا إلى تعقد وغموض الظاهرة المدروسة (الإنسان)
2-موقف جول مونرو: أهمية الفهم في بناء العلم والبداهة
إذا كان التفسير تبريرا أو تعليلا لحدوث الظواهر انطلاقا من ارتباطها بظواهر أخرى بناء على جملة من الإجراءات التي يقدر أنها علمية وموضوعية فإن منهج الفهم يتوجه إلى الظاهرة الإنسانية في وضعيتها الوجودية الوجدانية وإدراكها معرفيا مباشرا دون استعمال لأية وسائط استقرائية، ذلك أن الخاصية الأساسية في منهج الفهم هي البداهة والوضوح فما يكون بديهيا نفهمه بطريقة مباشرة لا نشك فيها بل نسلم بصحتها ابتداءا، وكمثال على هذا الفهم البديهييقول جول مونرو: "فنحن نتفهم الغضب وتسديد الضربات لأن هذه العلاقة بديهية..وعلينا أننقول على الفهم كما يقول باسكال عن روح الدقة فهو "رؤية نافذة وإدراك مباشر...لدلالةمعيشة".
وهنا ينتقد مونرو التصور الوضعي الذي يدعي إمكان تحقيق معرفة علمية لجميع الظواهر الفيزيائية منها والذهنية والاجتماعية.
المحور الثالث : مسألة نموذجية العلوم الإنسانية
1- موقف جان لاديير : أي نموذج للعلمية في العلوم الانسانية؟
تسعى العلوم الانسانية أن تحقق صفة العلمية كما هو الشأن في العلوم الطبيعية لكن الاشكال المطروح هنا هو: هل طريق بلوغ العلمية في العلوم الاجتماعية هو فقط تقليد ونسخ نموذج العلوم التجريبية؟ وهل بالإمكان إخضاع الظاهرة الانسانية لنفس الدراسة التي تخضع لها الظاهرةالطبيعية''؟
واقعيا وعلميا يستعصي على الفعل البشري أن يتحول إلى موضوع ميسر للدراسة العلمية إزاء ذلك تظهر إمكانيتان:
1- إمكانية الاستيراد: وتعني نسخ المناهج أو نقل "المناهج التي كشفت عن حِجِّيتها في ميدان علوم الطبيعة" وتطبيقها في ميدان الظواهر الاجتماعية، مع العلم بأن ذلك يتطلب "وضع الفاعلين بين قوسين".
2- إمكانية الاستقلال: وذلك بالتخلي عن استيراد نماذج العلوم الطبيعية وإنشاء نموذج أصيل يوافق طبيعة الموضوع المدروس (الظاهرة الانسانية)
الإمكانية الأولى التي من خلالها يمكن تناول الوقائع الاجتماعية كما تتناول الأشياء المادية. تطرح صعوبة منهجية تتمثل في عدم القدرة على الاحاطة ب''كل ما يتصل بنظام الدلالات ونسق المقاصد والغايات والقيم" وهذا يعني فشل الإمكانية الأولى.
أما الإمكانية الثانية والتي بموجبها تبدع علوم الانسان أدواتها الخاصة تسقط في شباك الذاتية حيث الانسان هو الذات الدارسة والموضوع المدروس في نفس الوقت، وهذا يعني فشلالإمكانية الثانية في الاستقلال عن العلوم الطبيعية، فما العمل؟
يرى جان لاديير أن مجال العلوم الاجتماعية والانسانية بإمكانه أن ينفرد بصورته الخاصة للعلمية مغايرة لما هو عليه الأمر في مجال الظواهر الفيزيائية، لكن المغايرة لا تفيد الاستقلال التام عن الشكل المميز للعلوم الطبيعية .
2-موقف إدغار موران: نموذجان للمعرفة في العلوم الانسانية .
يميز إدغار موران بين نوعين من السوسيولوجيا: سوسيولوجيا لا تزال حبيسة التأمل الفلسفي والمقال الأدبي والفكر الأخلاقي، وتسمى بالسوسيولوجيا الإنشائية، وسوسيولوجيا تستعير منهجها من الفيزياء وتتناول موضوعها بنفس الطريقة التي تتناول بها العلوم الطبيعية موضوعاتها، وذلك بعزل الموضوع المدروس وتخليصه من الذاتية وتأثير مختلف القوى المحيطة به ويسمى هذا النوع بـ"السوسيولوجيا العلمية".
في السوسيولوجيا الإنشائية لا يلزم إبعاد الذات بقدر ما ينبغي أن تحضر هذه الذات حضورا بيولوجيا يجعل الإنسان في قلب عالمه، يحيل على ذاته كما يحيل إلى ما يقع خارجها حيث يمتلك قدرة خلاقة في فهم الظاهرة الإنسانية وتفسيرها، وبهذا الصدد يقول أوغست كونت: "إن الاستكشاف العلمي في السوسيولوجيا شأنها شأن البيولوجيا ييستخدم ثلاثة أنماط أساسية هي: الملاحظة الخالصة والتجريب الدقيق وأخيرا المنهج المقارن".
-----------------------------