الثلاثاء 19 دجنبر 2017 - 13:08
مدخل
ظهرت في الآونة الأخيرة ظاهرة جديرة بالتوقف عندها، وعلى الباحثين في العلوم الإنسانية توجيه بحوثهم نحوها درسا وتحليلا بحثا عن مكمن صعودها، وهي: ظاهرة الكوميديا الوعظية. فما المقصود بالكوميديا الوعظية؟
إن الإجابات العلمية الدقيقة حول هذه الظاهرة يحتاج إلى دراسة سيكوسوسيولوجية محكمة المعالم، ما سنقوم به في هذه العجالة هو تخطيط بعض الخطوط العريضة لمن أراد مزيدا من التعمق في الموضوع، ولنبدأ بالتحديدات المفاهيمية.
1. تحديد المفاهيم
في اللغة العربية تعني الكوميديا: "الملهاة" وهو نوع من أنواع التمثيل، قد تكون مسرحية منثورة أَو منظومة تصف معايبَ الناس ورذائلَهم في صور مضحكة، ولها أنماط متعددة وتركز بالأساس على إثارة العاطفة والوجدان بدل العقل.
أما مصطلح "الوعظية" مأخوذ من لفظة "الوعظ" وفي أخصر تعريف له هو "زجر بتخويف". وقد ورد لفظ الوعظ في القرآن الكريم بصيغ متعددة والقرآن كله موعظة. ومن المصطلحات القريبة من هذا اللفظ نذكر؛ "القاصّ" و"المذكر"... وقد عَرف الوعظ في التاريخ الاسلامي أوجها متعددة، كان في البداية تطوعيا ثم بعد ذلك أصبح رسمياً وكان أول من نصّب كرسي الوعظ وجعل عليه واعظاَ هو معاوية بن ابي سفيان لغاية سياسية معلومة تاريخيا.
أما التعريف الإجرائي الذي نريده لهذا المفهوم المركب "الكوميديا الوعظية" هو تلك الطريقة المنظمة التي تصف معايب الناس ورذائلهم بطريقة الزجر والتخويف والتحبيب في صورة مضحكة. ويتجلى هذا المعنى بشكل أوضح عندما نعرف "الواعظ الكوميدي" وهو ذلكم الشخص الذي يمتهن الوعظ الديني ويمتاز عن غيره في الساحة الوعظية بكونه محبوباً من طرف الجميع ويحس الناس بالبهجة والسرور في حضرته، يتمتع بالفكاهة والمرح..(الفكاهة الدينية)، ومن أبرز صفاته؛ الثقة بالنفس، مطلع على الواقع الاجتماعي للناس بالمخالطة والمشاهدة..، من سماته أيضا أن له القدرة على معرفة ما يضحك الحاضرين، فالناس دومًا تريد الضحك كمهرب من التوترات النفسية والعصبية التي يواجهونها في الحياة اليومية وضغوطاتها، ومن ثقل الماضي والحاضر. إذن، فـ"الواعظ الكوميدي" هو ذلكم الشخص الذي يوظف النصوص الدينية في وعظه أثناء مناسبة اجتماعية ما، من أجل تذكير الحاضرين بدينهم وبآخرتهم بطريقة فكاهية.
2. تحليل أسباب الظاهرة
ومن أسباب بروز ظاهرة "الوعظ الكوميدي" نذكر منها ما هو سيكولوجي(نفسي) كالميولات الذاتية للفكاهة والتمثيل عند الشخص الواعظ، وحب التميز والتفرد في ساحة الوعظ والخروج عن المألوف. وهناك عوامل سوسيولوجية(اجتماعية) منها؛ التقبل الاجتماعي لمثل هذه الطريقة في الالقاء وإخراج الوعظ من النمطية المعتادة، كذلك، انتشار وسائل الاعلام وطريقتها في تسريب المعلومة بالتركيز على المقاطع المثيرة أثناء "الوعظ الكوميدي" وبالتالي إعطاء النموذج. بالإضافة إلى الضغوطات الاجتماعية المتمثلة في السياسة والاقتصاد والعمل..، والبحث بالتالي عن التنفيس الميتافيزيقي.
ظاهرة "الوعظ الكوميدي" هي ظاهرة قديمة جديدة وتعرفها جل المجتمعات الإسلامية غير أن الجديد فيها هو إعطاؤها صبغة "النجومية" بسبب التركيز الإعلامي عليها، مما يدفعنا إلى القول؛ بأن ظاهرة "الكوميديا الوعظية" أصبحت كونية ومغرية للشباب وقد تدفع إلى التنافسية تشبّهاَ بمثيلاتها في مجال الفن الغنائي، هذا الأخير الذي طرأ عليه تحولات جذرية، فمن مجال "فن القضية" إلى "فن الإغواء"، فهل يمكن أن يصبح الأمر كذلك في مجال "الوعظ"؟ أي بالتركيز على مفاتن الواعظ الجسدية والحركية وقد يلعب السن في هذا السياق دورا هاما.
إن مثل هذا الإشكال يدفعنا إلى أن نتأمل الواقع الوعظي في المجتمع، وأنا هنا لا أتحدث عن الوعظ القرآني ولا وعظ العلماء المستبحرين في العلم، وإنما عن ظاهرة حددتها سلفاً ما أسميتها: "الكوميديا الوعظية" أو "الوعظ الكوميدي" والتي هي في صعود مستمر ترقى نحو النجومية، فبالملاحظة والتتبع نجد الوعاظ اثنان:
1. الواعظ العالِم: وهم كثر في التاريخ الإسلامي وفي وقتنا الحاضر والأمثلة على ذلك كثيرة؛ كالإمام الشافعي والامام مالك وأبو حنيفة النعمان وابن تيمية وابن الجوزي وغيرهم من المعاصرين كثر..، وهؤلاء يعِظون الناس إما عن طريق الكراسي العلمية أو المحاضرات والندوات والكتابة والتأليف والتدريس..، وهو أسلوب يمتاز به الفقيه النِّحرير الذي امتلك شروط الوعظ حقيقة، وهي باختصار كالآتي:
- إتقان علم اللغة
- إتقان علم الفقه
- إتقان علم الحديث
- إتقان علم الأخبار والسير وقدرته على فحصها وتمحيصها.
- العمل بما يدعو إليه
- الصدق والزهد في الدنيا
إن المتأمل في هذه الشروط أعلاه يجد "الواعظ الكوميدي" بعيداً كل البعد عنها، فهذا يعني أن الواعظ ينبغي أن يخلص النية لله في قوله وعمله وأن يصفِّر ([1]) نفسه في اليوم ألف مرة كما يقول أحد الباحثين، زاهداً في الدنيا لأنه يريد إصلاح نفوس الناس، عالِم بالدّين والدّنيا مستوعبا الماضي والحاضر ذو رؤية مستقبلية واضحة، وقد أثر عن الامام مالك أنه كان لا يتحدث فيما لا يحسن وكذلك الامام الشافعي وغيرهم.
2. الواعظ الكوميدي: وقد أطلقنا هذا الوصف عليه نظرا لنوعية الخطاب والالقاء الذي يمارسه هذا النوع أثناء الوعظ. وأغلب هؤلاء الوعاظ بضاعتهم في العلم زهيدة، وهم صنفان: واعظ بكّاء؛ وهو من يُبكي غيرَه ويجعلُه يذرف الدُّموعَ أثناء الوعظ، إما عن طريق تقنية التباكي أو دخوله في حالة نفسية ووجدانية عاطفية تجعله يذرف الدموع ويبكي معه الحاضرين. وهذا الصنف له تأثير على الوجدان والعاطفة يلهب المستمعين ويدفعهم إلى التصديق بما يعظهم به، إن كان الموضوع صدقة أو إنفاق في سبيل الله أو جهاد في سبيله..، وواعظ ضحّاك؛ وهو من يُضْحِك النَّاس أثناء الوعظ عن طريق ربط موضوع الموعظة بحياة الناس العامة استهزاء واستحساناً أو بالانفتاح على عوالم قد تبدو غريبة في عالم الوعظ كضرب الأمثلة بالفنانين والمشاهير في عالم الاعلام..، أو بحياة الواعظ نفسه كأن يحكي قصص وقعت له في حياته..، أو محاولة كسر الطابوهات /المحرمات الاجتماعية..، بحثاً عن الأمثلة والنكت المضحكة. وفي بحث سريع على مواقع التواصل الاجتماعي..، نقف على عناوين دالة على ما أشرنا اليه أعلاه، من قبيل؛ (لن تمسك نفسك من الضحك مع الشيخ كذا..، اضحك مع الشيخ الفلاني..، ساعة ونصف من الضحك مع الشيخ..، طرائف الداعية كذا..، نصف ساعة من الضحك والإفادة.. اضحك واستفد مع الداعية..، الحمار والويسكي مواعظ بطريقة هزلية..، موعظة وفكاهة دينية للشيخ كذا..، الاسلام بطريقة فكاهية للشيخ الفلاني...الخ).
هذه نماذج من عناوين "ظاهرة الكوميديا الوعظية" والمتتبع لخطاب هذا الصنف من الوعاظ يجده خطاباً سطحياً يصل إلى قلوب الناس لكن سرعان ما يتبخر، لأنه غير مبني على الحجة والبرهان العقلي، وهم بطريقتهم هذه يظنّهم الناس علماء، فيلتجئون إليهم بالفتوى، ونظراً لِوَهْمِ الشهرة يصبح "الواعظ الكوميدي" مفتياً، وهذا أخطر انتحار للعقل المسلم.
3. خلاصات عامة
نخلص إلى القول؛ إن "ظاهرة الكوميديا الوعظية" قديمة جديدة، موجودة في كل المجتمعات المسلمة، ونتيجة تحرير الإعلام الإلكتروني وانتشاره في أوساط العامة أصبحت الظاهرة عالمية ومغرية للشباب بسبب التركيز الإعلامي عليها، ونتيجة تتبعنا للظاهرة في محيطنا المغربي على الأقل نسجل بعض الخلاصات الآتية:
- إن "ظاهرة الكوميديا الوعظية" في صعود مستمر بسبب إقبال الناس عليها.
- إن الاعلام الإلكتروني وجدها مادة دسمة لجلب الزبائن وزيادة المشاهدين طمعاً في الربح.
- الخطاب الوعظي الكوميدي يعمل على تسطيح الوعي لأنه غير مؤسس على الدليل والحجة العلمية، وهو خطاب سهل يمكنك سماعه في جميع أحوالك كما تسمع أغنية ما، بينما الخطاب العلمي المؤسس يحتاج إلى تركيز وجهد ذهني كبير.
- هناك شروط ينبغي توفرها في الواعظ وعليه أن يكون مطلعاً وفاهماً للعلوم الإنسانية (علم الاجتماع وعلم النفس والسياسة ولاقتصاد والتاريخ..)، فهل يتوفر "الواعظ الكوميدي" على شيء من هذا؟
- الخطاب الوعظي الكوميدي تأثيره بسيط لا يتجاوز لحظة الخطاب، لأنه يثير العاطفة بدل العقل. فالموعظة العاطفية "سريعة التبخّر"، ولا تأثير لها على أرض الواقع، فمن السهل على كل ملاحظ أن يرى ذلك على أرض الواقع، فكم من مواظب على الوعظ تجده يغش يكذب يسرق يخاصم..، وقد لا يسلم من هذه السلوكات اللاأخلاقية الواعظ نفسه.
- إن استشهاد الواعظ بالنصوص الدينية لا يدل على أنه يفهمها فكم من واعظ يعظ الناس عن طريق الحفظ والسماع من أشرطة لوعاظ آخرين.
- الخطاب الوعظي الكوميدي ينحو نحو "المثالية" ويبتعد عن "الواقعية" ويحدث عن هكذا خطاب مشاكل نفسية خطيرة مثل "الانفصام" و"الازدواجية". الخ.
- الخطاب الوعظي الكوميدي خطاب استهلاكي لا يضيف شيئاً إلى الحضارة الإنسانية.
- الخطاب الوعظي الكوميدي خطاب تنفيسي يبعد الناس عن قضاياها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فقد يوهم الناس بأن حل المشكلات الاجتماعية والتنموية لها علاقة بما يعظ به، وهذا تنويم مغناطيسي خطير.
هذه إذن، بعض الخلاصات السريعة التي توصلنا إليها نتيجة تتبعنا لصعود ظاهرة "الكوميديا الوعظية"، وهي خلاصات قابلة للنقاش والبحث والإغناء من طرف الباحثين والمختصين. وهي ظاهرة - كما قلت في مطلع هذه المقالة - مغرية للباحثين في العلوم الاجتماعية يجب توجيه النظر إليها بالبحث والتحليل.
[1] إحالة إلى التواضع والزهد في الدنيا والتفاني في الخدمة بغية رضا الله..