أولاً: في السياق والدواعي
ربما يطرح السؤال حول راهنية العودة إلى كتاب ألف في أواخر القرن التاسع عشر، بما يعني ذلك، تباعدًا زمنيًّا وسياقيًّا ومجاليًّا (الكتاب يتحدث عن ظاهرة الانتحار في أوربا) وتاريخيًّا وحتى سوسيوثقافيًّا؟
بدوري طرحت على نفسي هذا السؤال قبل الاطلاع على الكتاب، لكن ما إن بدأت في قراءته حتى تبين لي قيمته المعرفية والابستمولوجية والمنهجية، لأنّه ليس كتابًا عاديًّا، مثل الكتب التي نقرأها في الآونة الأخيرة، وليس دراسة خاصة بالانتحار في أوربا، ولا حتى كتابًا يعود إلى القرن 19، وبالتالي لا حاجة لنا في العودة إليه. بل إنّني أعتقد أنّ ما من باحث في السوسيولوجيا وفي العلوم الإنسانية بصفة عامة، إلا ويجب أن يقرأ هذا الكتاب، لما يتضمنه من رصيد معرفي ومنهجي ثري، قلما يتوفر في كتاب.
ونحن إذ نباشر قراءة هذا المؤلف، لا بأس من بسط بعض المعطيات العالمية حول ظاهرة الانتحار، فحسب آخر تقرير صدر عن منظمة الصحة العالمية لسنة 2014، تحدث عن أنّ العالم يشهد حالة انتحار في كل 40 ثانية، بما مجموعه أكثر من 800.000 شخص ينتحرون في السنة . وهذا يعني أنّ الظاهرة عالمية وهي لا تفتأ تستفحل سنة بعد أخرى، هذا على الرغم من أنّ المعطيات المستقاة من طرف المنظمات العالمية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية، تبقى تقديرية وتقريبية. لأنّ العديد من الدول، كما هو معروف، وخصوصًا دول العالم الإسلامي، لا تتوفر على سجلات لإحصاء المنتحرين، وذلك لاعتبارات دينية وثقافية ليس المجال مناسبًا لبسطها في هذه القراءة.
ولكي نوضح طبيعة معضلة الانتحار، فإنّ المثال التالي الذي نسوقه من دولة الهند، يبين لنا بالملموس كيف أنّ هذه الظاهرة تبقى مؤرقة على نحو مستمر، فحسب اللجنة القومية لسجلات الجريمة بالهند، ما بين عامي 1995 و2007، أكثر من 184000 مزارع انتحروا، هربًا من الفاقة والعوز. ولم يستطع هؤلاء المزارعون تسديد الديون التي اضطروا إلى اقتراضها من أجل شراء المخصبات والمبيدات والوقود.. “وقد ساهم كل ما سبق في تكوين طبقة اجتماعية جديدة تعرف باسم الفلاحين الأطفال، على نحو ما يشير إليه تقرير لوكالة الأنباء المحلية..، ففي المناطق التي تسجل فيها حالات انتحار عالية تتجه الأرامل الشابات إلى تربية الأبناء في ظروف من الحرمان الشديد ويسيطر عليهن شبح مستقبل كالح مفزع “.
وبعيدًا عن لغة الأرقام والمعطيات الإحصائية، فإنّ الواقع الحالي، ينبئ بتحول عميق في منظومة القيم المجتمعية لدى كل دول المعمورة. وقد برزت بشكل حاد، حالات من القلق الحضاري الذي بدأ ينتاب البشرية كلها، وبدأ معها السؤال الوجودي يتجدد؟ ما مصير الإنسان؟ وما هو هدفه في الحياة؟ وما معنى الحياة أصلاً؟ إلى غيرها من الأسئلة المحرقة التي باتت تؤرق البشرية برمتها في ظل تعدد المرجعيات الدينية والثقافية والقانونية والسياسية وما إلى ذلك. ولعنا نجد في استشرافات الكثير من الباحثين بعضًا من الجواب عن حيرة الإنسان المعاصر، الذي “أصبح يلهث وراء المال، ووراء البحث عن الطريف والجديد والصارخ والمتفرد، فبدأ ينغمس في العوالم الافتراضية الوهمية بحثًا عن التسلية الواهية، فيحصل له التبدد ثم الضياع “. وأصبح يعيش في عزلة تامة، على الرغم من قوة التدفقات التكنولوجية التي بدأت تحيطه من كل جانب؟ وهو الأمر المفارق للغاية، في ظل حضور أشكال التواصل اللامتناهية، فإنّ الإنسان المعاصر، يحس باليتم والانعزال، مما يدفعه إلى التفكير في مجموعة من الحلول، لعل من بينها الأكثر دراماتيكية، الانتحار.
فكيف يشرح لنا دوركايم، هذه الظاهرة؟ هل يرجعها إلى ما هو سيكولوجي؟ أم إلى ما هو كوني طبيعي؟ أم إلى محددات عرقية وإثنية؟ أم إلى معطيات طبيعية كالطقس وتغيراته؟ أم إلى أسباب اقتصادية وصناعية؟ أم إلى اعتبارات اجتماعية مرتبطة بالهشاشة والفقر والعوز؟ أم إلى تفكك الرابطة الأسرية والعائلية بشكل أوسع؟ أم إلى تراجع دور الدين في تأطير المجتمع؟ أم إلى وجود تحولات سوسيوثقافية وسوسيواقتصادية، هي التي دفعت بالظاهرة نحو البروز بشكل لافت للنظر في أواخر القرن 19؟
وما هي أنواع الانتحار التي توقف عندها دوركايم؟ وما هي التفسيرات التي توصل إليها لشرح سوسيولوجيي للظاهرة؟ وأخيرًا ما هي المداخل التي يقترحها “دوركايم” للخروج من معضلة الانتحار الكونية؟
ثانيا: في مورفولوجية الكتاب/ الأطروحة
نظرًا للخصوصية التي يتميز بها “دوركايم” والتي تتمثل في الطابع الجدالي والنقدي الذي ينتهجه في الكتابة السوسيولوجية، فإنّ الكتاب/ الأطروحة، ممفصل على ثلاثة أبواب. نجد في الباب الأول، تساؤلاً عن معنى الانتحار من خلال الوقوف عند الأسباب اللااجتماعية، وهو الذي يضم أربعة فصول: الأول (الانتحار والحالات السيكولجية)، والثاني، (الانتحار والحالات السيكولوجيية السوية)، والثالث (الانتحار والعوامل الكونية)، وأخيرًا (الانتحار والمحاكاة). أما الباب الثاني فهو عبارة عن نقد للأطروحات السابقة التي وردت في الباب الأول، وهي التي اختار لها الباحث اسم: الأسباب الاجتماعية للانتحار، والتي تتوزع على ستة فصول: أولها (منهج لتحديد الأسباب والنماذج)، ثانيها (الانتحار الأناني)، وثالثها (الانتحار الغيري)، ورابعها (الانتحار الفوضوي)، وخامسها (الأشكال الفردية لمختلف نماذج الانتحار). في حين أنّ الباب الثالث، من الدراسة، تضمن أهم الخلاصات التي توصل إليها الباحث، حيث عنون هذا الباب، بـ”الانتحار كظاهرة اجتماعية بوجه عام”، وفيه نجد ثلاثة فصول: الأول (العنصر الاجتماعي للانتحار)، والثاني (صلات الانتحار بالظواهر الاجتماعية الأخرى)، وأخير (نتائج عملية) وهي التي يطرح فيها الاقتراحات والحلول للخروج من معضلة الانتحار.
هكذا يتبين من خلال هذه الهيكلة المتناسقة، الطرح العلمي والمنهجيي والنقدي الذي اعتمده “دوركايم” في قراءة ظاهرة الانتحار. ولعله بهذا الطرح، يفتح آفاقا جديدة في التعامل مع الظاهرة التي تقع على أرضية مشتركة بين العديد من التخصصات العلمية.
ثالثا: منهجية الدراسة
عندما تطالع كتاب “الانتحار”، تفهم كيف تطورت الظاهرة عبر الحقب الزمنية والتاريخية، وكيف كانت الظاهرة تعاش في العديد من الثقافات والديانات والخصوصيات السوسيوثقافية. ولم يكن ليتوفر ذلك، بدون منهج واضح للمؤلف، إذ أنّه آلى على نفسه ألا يقحم في كتابه إلا ما هو مؤكد من المعلومات، حيث يقول في هذا الصدد: “… فقد اتخذنا قاعدة لنا بأن لا نقحم في أبحاثنا معلومات غير مؤكدة بقدر ما هي مفيدة علميًّا”. وأكثر من ذلك، فإنّ المؤلف اجتهد في الوصول إلى مجموعة كبيرة ومتنوعة من الإحصائيات والمعطيات والأرقام والخرائط التي تبين تطور ظاهرة الانتحار في مجموعة من الدول الأوربية في نهاية القرن 19. وهذه المعطيات – وجب أن نعترف أنّه ليس من السهل على باحث بمفرده أن يجمعها ويبوبها ويستخلص منها خصائص الظاهرة – تبقى جد هامة في توضيح العديد من الفرضيات التي قد يطرحها كل متتبع ومهتم بظاهرة الانتحار سواء في أوربا أو في غيرها من القارات والدول.
وعندما نتوقف عند هذا المعطى، لكي نبين حجم الجهد الذي يتكبده الباحث، في سبيل توضيح ظاهرة ما. فعلى سبيل المثال: تداول العديد من الباحثين، فرضية أنّ الانتحار قد يكون في الأشهر الباردة من السنة، خصوصا ونحن نعلم أنّ بعض الدول في أوربا (الاسكندنافية منها)، تعرف شتاءً طويلاً يمتد إلى ستة أشهر. ولهذا تتبع “دوركايم” الإحصائيات السنوية والشهرية لأعداد المنتحرين في أوربا، ليجد أنّ الشهور التي يكثر فيها الانتحار ليست هي الشهور التي تقع في فصلي الخريف والشتاء، وإنّما هي التي تقع في فصلي الربيع والصيف .
من بين الخصائص المنهجية التي تشدّك في كتاب “الانتحار”، هو قدرة دوركايم على تطبيق المنهج المقارن بنوع من الحرفية العالية، ففهم ظاهرة من الظواهر، سواء دينية أو سياسية أو اجتماعية أو رياضية أو فنية.. يقتضي وضعها في سياقها المقارن. لاستخلاص النمذجات الضرورية لقراءة الظاهرة. ولهذا فقد استطاع دوركايم من خلال تدقيقه في مختلف خصائص الظاهرة، أن يستجلي نماذج للانتحار فردية، وهي: الأناني، الغيري، الفوضوي. ثم نماذج أخرى مختلطة وهي: انتحار أناني-فوضوي، انتحار فوضوي-غيري، وأخيرًا، انتحار أناني-غيري . ولعل هذه الميزة قلما تجدها في الدراسات السوسيولوجية، والتي تكثر فيها المعطيات والأرقام والإحصائيات والجداول، إلى درجة يغيب معها المعنى وتشت الفكر. لكن منهج دوركايم، كان جد موفق، لأنّه انتهج الخطوات الثلاث في البحث السوسيولوجي، وهي الوصف والتفسير وأخيرًا الاستشراف، فهو لم يتوقف في لحظة وصف الظاهرة، بقدر ما سعى إلى إيجاد تفسير مقنع لها، وأخيرًا توصل إلى وضع بعض الاستشرافات الممكنة لتجاوز هذه المعضلة.
لا يمكن أن تقرأ كتاب “الانتحار” بدون أن تستخلص أهم فكرة إبداعية بلورها “دوركايم” وأصبحت أيقونة المنهج السوسيولوجي برمته، وهي، “لا يمكن فهم الاجتماعي إلا بما هو اجتماعي” أي أنّ فهم الظاهرة لا يمكن أن يكون إلا إذا اعتمد الباحث على منهج سوسيولوجي واقعي وموضوعي. في هذا الصدد، يؤكد دوركايم: “لا بد لنا من الاتفاق، أنّه إذا كان للسوسيولوجيا من وجود، فلا يمكنها إلا أن تكون دراسة عالم ما يزال مجهولاً، ومختلفًا عن العوالم التي تتحراها العلوم الأخرى. وعليه فإنّ هذا العالم ليس شيئًا إن لم يكن نظامًا من الحقائق الواقعية “.
وفوق كل هذا وذاك، نجد في منهجية “دوركايم” جدلاً في بناء الفرضيات وفي تفنيد الأطروحات السابقة، والتي حاولت أن تحلل ظاهرة الانتحار. فمثلاً نجده في الباب الأول (الفصل الأول)، يعرض وجهة نظر الأطباء العقليين (اسكيرول)، والذين يؤكدون أنّ “الانتحار ناجم عن الاضطراب العقلي”. بيد أنّ دوركايم من خلال تتبعه لمجموعة من المعطيات المتفرقة والمقارنة، توصل إلى أنّه “لا يمكن رد كل حالات الانتحار إلى وجود أعراض لمرض عقلي”. “فالخلاصة أنّ جميع الانتحارات الناجمة عن الاضطراب العقلي، إما أن تكون مجردة من أي سبب، أو مدفوعة بأسباب متخيلة بوجه الدقة. والحال فإنّ عددًا كبيرًا من الموتى الإراديين لا يندرجون في هذه الفئة ولا تلك، فالغالبية منهم لهم أسبابهم التي ليست من دون أساس في الواقع. وهكذا فنحن لن نستطيع إذن، من دون تعسف في استخدام الكلمات، أن نرى مجنونًا في كل منتحر. فمن بين جميع الانتحارات التي قمنا بوصفها، فإنّ الانتحارات التي لاحظناها لدى الناس الأسوياء هو الانتحار السوداوي. ذلك أنّ الرجل السوي الذي ينتحر يكون هو أيضًا في حالة من الخور والاكتئاب على غرار المريض العقلي “. وهذا يعني أنّ منهج دوركايم تفكيكي-نقدي في الآن نفسه، فهو لا يكتفي بتوجيه النقد للأطروحات السابقة – ومنها بطبيعة الحال النظريات السيكولوجية – بل إنّه يعمل على استعراض وجهة نظرها، وأدلتها وبراهينها. ثم بعد ذلك، يقدم النقد بإعمال أدواته العقلية والعلمية والمنهجية. فعلى سبيل المثال، يتوارد لدى العديد من الأطباء النفسانيين، أنّه من أسباب الانتحار، المرض العصابي أو مدمنو الكحول، لكن دوركايم لم يستسلم لهذه النتائج، بل اعتبرها فرضيات أولية، قابلة للفحص والنقد. وهكذا فقد بين أنّه “ليس هناك أية حالة سيكوباتية تحتفظ بعلاقة منتظمة وأكيدة مع الانتحارات. فأن يضم مجتمع من المجتمعات في داخله عددًا أقل أو أكثر من العصابيين أو الكحوليين، فإنّ هذا لا يفضي إلى أن يكون لديه عدد أكبر أو أقل من المنتحرين، ورغم أنّ الانحطاط العضوي بمختلف أشكاله يشكل تربة سيكولوجية صالحة للغاية للتأثير في الأسباب التي يمكن أن تدفع إنسانًا إلى الانتحار، فإنّه هو ذاته لا يمثل أحد الأسباب. ويمكننا أن نسلم بأنّه في ظروف مماثلة، فإنّ المنحط عصبيًّا ينتحر بسهولة أكبر من الإنسان السليم، ولكنه لا ينتحر بالضرورة بمقتضى حالته تلك. فالإمكانية الافتراضية التي في داخله لا تدخل في الفعل إلا تحت تأثير عوامل أخرى لا مفر لنا من البحث عنها “.
إنّ هذا المقطع – الذي سقناه على سبيل التمثل لا الحصر – إنّما يؤكد النفس النقدي والحجاجي الذي اتسم به الباحث في مجمل تحليلاته وتفسيراته للظاهرة.
رابعًا: أهم النتائج
أ) العوامل اللااجتماعية
لم يكن من الهين ولا بالسهل على باحث بل باحثين من أن يتوصلوا إلى نتائج مفاجئة في موضوع الانتحار، ولعل ما قام به “دوركايم” يعد في نظرنا جزءًا من هذا التحدي والمغامرة العلمية التي ركبها هذا الباحث والمؤسس لعلم الاجتماع. إذ أنّ الظاهرة متلبسة بالأحكام الجاهزة وبالانطباعات التي يحملها الحس المشترك، هذا بالإضافة إلى النتائج العلمية التي توصل إليها باحثون آخرون درسوا الموضوع. لذا فإنّ الوصول إلى تحديد سبب ظاهرة تحديدًا دقيقًا يشكل دائمًا معضلة شائكة. وهذا ما حصل بالضبط لدوركايم في هذا الكتاب. اعتبارًا لكل ما سبق: نتساءل: ما هي الأسباب العميقة والمحددة لظاهرة الانتحار؟ هل يمكن ردها لعوامل سيكولوجية؟ أم إلى عوامل عرقية أو وراثية؟ أم إلى عوامل كونية؟ أم إلى عامل المحاكاة؟
1- العامل العرقي (الإثني) والانتحار
ساد الخطاب العلمي في القرن 19 مجموعة من المقولات والأحكام والنتائج التي أصبحت في حكم المسلم بها، ومن بينها الأصل العرقي (الإثني)، من حيث هو محدد للعديد من الظواهر، سواء اللسنية أو الاجتماعية أو الأصول الصافية لعرق معين. لكن الباحث في السوسيولوجيا أو الأنثربولوجيا، عليه أن يبقى متسلحًا بحسه النقدي متتبعًا للمعطيات والنتائج حيثما انتهت به. في هذا السياق، أكد “دوركايم” في معرض رده على المزاعم التي كانت تعتقد أنّ الانتحار يقع بسبب الانتماء العرقي للشخص، وأنّ أعراقًا (مثل الألمان) أكثر انتحارًا من غيرهم. فإنّ هذا الاستنتاج يبقى جد متسرع. ولهذا نجده يستشهد بالنموذج الألماني، باعتباره أكثر الشعوب “محافظة” على أصالة عرقه، فقد تبين أنّه “إذا كان الألمان ينتحرون أكثر من الشعوب الأخرى، فإنّ سبب ذلك لا يكمن في الدم الذي يجري في عروقهم، وإنّما إلى المدنيات التي تسربوا في كنفها”. ويضيف “دوركايم” مثالاً آخر يفند نظرية العرق وعلاقتها بالانتحار، قائلاً: فإذا كان أناس في الشمال (فرنسا) ينتحرون إذن أكثر من أناس الجنوب، فليس لأنّهم أكثر استعدادًا بحكم مزاجهم العرقي، وإنّما ببساطة، لأنّ الأسباب الاجتماعية للانتحار أكثر تجمعًا بنحو خاص، في شمال اللوار أكثر مما في جنوبه”.
إنّ مسألة العلاقة بين العرق والانتحار تقتضي أنّ هناك أجناسا “خالصة” وأخرى مختلطة، والحاصل أن هذا الصفاء العرقي لم يستطع الكشف عنه كبار الأنثروبولوجيين، لما يكتنفه من صعوبات إبستمولوجية وتاريخية معقدة ومتعبة، والتي لم تخرج إلا ببعض الفرضيات التي تعوزها الأدلة الدامغة. ولهذا فإنّ هذا الطرح يتهاوى أمام وجود معطيات علمية تؤكد أنّه لا توجد علاقة وطيدة بين انتشار الانتحار والأصل العرقي، بل إنّ المحدد الرئيس في العملية هو الشروط الاجتماعية كما يذهب إلى ذلك دوركايم.
2- الانتحار والعوامل الكونية
يقصد بالعوامل الكونية، مختلف العوامل الفزيائية الطبيعية، كالطقس داخل المناطق المختلفة، والاختلافات بين الفصول السنوية. حيث أنّه ساد في الحس المشترك أنّ المناطق الباردة هي التي تكثر فيها ظاهرة الانتحار، لكن هذه الدعوى، أصبحت باطلة بدليل ما أفصحت عنه المعطيات الإحصائية المجمعة حول تتبع الظاهرة عبر الشهور والفصول السنوية في أوربا. حيث تبين أنّ أكثر الفصول انتشارًا للانتحار هما فصلا الربيع والصيف وليس الخريف والشتاء. ولهذا تساءل دوركايم، لماذا لا تكثر الانتحارات في المناطق الأكثر سخونة على وجه البسيطة؟ هذا المثال لا ينقض الأول، لكنّه يعزز المنحى الذي توصل إليه “دوركايم”، وهو أنّه إذا كان من نتيجة يمكننا استخلاصها، فهي أنّه إذا لاحظنا كثرة الانتحارات سواء في شهر دجنبر أو يوليوز، فليس ذلك بسبب درجة الحرارة أو البرودة، بقدر ما هو نتيجة لطبيعة الحياة الاجتماعية وللقابلية التي يتمتع بها السكان في منطقة محددة. أي مختلف الشروط القبلية والبعدية التي يقيمها الفرد مع البيئة التي يعيش فيها وكيفية استجابته لها، ومدى وجود محفزات اجتماعية تغذي عملية التفكير في الانتحار أو تنفيذه مطلقًا.
3- المحاكاة (L’imitation)
يمكن القول إنّ هذا العامل مثير للعديد من الجدالات العلمية والسوسيولوجية في إعطائه القدرة على التأثر لدى الأفراد، في استبطان ظاهرة الانتحار والنسج على منوال من يقوم بها. خصوصًا إذا كان من الأقران (أي الفئات المتقاربة في السن). في هذا السياق، قد توصل التقرير الأخير لمنظمة الصحة العالمية حول الانتحار، إلى أنّ كل بالغ يقوم بالانتحار فإنّه يؤثر في أكثر من 20 شخصًا آخرين . ونظرًا لأهمية هذا العامل، فقد توقف عنده “دوركايم”، وخصص له حيزًا مهمًّا في كتابه، مبينًا سطحية هذا التحليل، الذي يذهب في تفسير الظاهرة، انطلاقًا من تأثير فرد معين في آخرين. وكأنّنا لسنا أمام مجتمع – بكل ما يختزنه من بنيات ومن ديناميات ومن شبكات معقدة – بل نحن أمام أفراد يتأثرون بصورة سلبية وساذجة أحيانًا، وكأنّهم آلات وليسوا بشرًا. والحاصل أنّ هذا الأمر، إذا كان ينطبق على عالم الحيوان، فهو جد معقد بالنسبة إلى الكائن البشري. وهذا ما يناقض المسلمات التي قام عليها العلم. ولعل الداعين لهذه الفكرة (أي المحاكاة) يفتقرون إلى نتائج تجريبية تسند مقولاتهم. إنّ الذين يروجون لمثل هذه الأقوال (المحاكاة) ليسوا أكثر من لا هوتيين يرددون المقولات بدون إعطاء الدليل العملي عليها. “كيف يمكن لفرد وهو ليس شيئًا أكثر من فرد، أن يكون لديه القوة الكافية كي يصنع مجتمعًا على صورته؟”. صحيح أنّه مر في التاريخ – وما زال – أشخاص يستطيعون التأثير في مجتمعات بأكملها. لكن الذي يجب أن ننتبه إليه، هو الخوف في السقوط في سذاجة علمية ما.
ب) العوامل الاجتماعية
لا شك أنّ المتتبع لكتاب “دوركايم” يكتشف إلى أي حد نافح هذا السوسيولوجي عن أطروحة “الاجتماعي يفسر بما هو اجتماعي”، بمعنى آخر فإذا كانت ظاهرة الانتحار نابعة من المجتمع، فلا يمكن تفسيرها عمليًّا وعلميًّا إلا بالبحث عما هو اجتماعي فيها. في هذا السياق، فإنّ البحث السوسيولوجي يتخذ أبعادًا علمية منهجية تمتح من طبيعة هذا العلم، القائم أساسًا على المنهج العلمي، في تتبع الظاهرة من خلال الملاحظة والفرضيات والإحصائيات والنتائج للخلوص إلى نماذج مثالية في الظاهرة. وهو ما توفق فيه “دوركايم” إلى أبعد حدود.
اعتبارًا لكل ما سبق، فقد توصل “دوركايم” إلى مجموعة من العوامل المؤثرة في ظاهرة الانتحار، منها ما هو ديني ومنها ما هو سياسي ومنها ما هو اقتصادي ومنها ما هو سوسيوثقافي إلى ما هناك من العوامل. لكن أهم نتيجة توصل إليها “دوركايم” – في اعتقادنا – هي النمذجة المثالية للانتحار، والتي يمكن إسقاطها على كثير من التجارب سواء التي تعود إلى القرن 19 أو 20 أو حتى 21.
1- الانتحار الأناني:
توصل “دوركايم” بعد تفحص العديد من الإحصائيات والمعطيات والمقارنات، إلى أنّ مفهوم الانتحار ليس مفهومًا واحدًا، بل إنّه يتعدد بحسب السياقات والشروط الاجتماعية التي تشرطه. في هذا السياق، أطلق الباحث، مفهوم “الانتحار الأناني” الذي يأتي نتيجةً طبيعيةً لانحلال الروابط الاجتماعية، سواء العائلية أو السياسية أو الدينية. وقد انطلق من مجموعة من الفرضيات التي عزز بها دواعي إطلاق هذا المفهوم. فأولاً، يتغير الانتحار تغيرًا عكسيًّا مع درجة اندماج المجتمع الديني. ثانيًا يتغير الانتحار تغيرًا عكسيًّا مع درجة اندماج المجتمع العائلي. وثالثًا، يتغير الانتحار عكسيًّا مع درجة اندماج المجتمع السياسي. وأخيرًا يتغير الانتحار عكسيًّا مع درجة اندماج الجماعات الاجتماعية التي يشكل الفرد جزءًا منها. ولكي يشرح هذه الفرضيات، فإنّ “دوركايم” اعتمد على منهج نقدي صارم في بناء أدلته، حيث يؤكد أنّ الانتحار الأناني، يتولد عندما تنتهي صلاحية القيم المجتمعية السابقة، لتولد معها قيم جديدة، أو “أخلاق جديدة”. وهذه الأخلاق لا تستطيع أن تقدم للفرد، ذلك الدعم والسند اللذين كان يحظى بهما في السابق. “مثلما أنّ الكرب الفردي حينما يكون مزمنًا، فهو يعكس بطريقته، الحالة العفوية السقيمة للفرد. وحينئذ تظهر تلك النظم الميتافيزيقية والدينية التي بتحويلها تلك المشاعر المظلمة إلى صيغ تبادر إلى تقديم البراهين للناس بأنّ الحياة لامعنى لها، وأنّ من خداع الذات أن ننسب إليها أي معنى. حينذاك تتشكل أخلاق جديدة، وقيم هي التي تشكل الواقع وتجعله واقعًا بحق، فهي توحي بالانتحار، أو على الأقل توجه الناس إليه ناصحة إياهم بالعيش أقل ما يمكن”. ولا تحصل هذه الحالة إلا إذا وقع نوع من “البؤس السيكولوجي للجسد الاجتماعي”، وانحلت الروابط الاجتماعية التي كانت قوية في الماضي. وساد قلق اجتماعي مزمن. وفي كل هذه الحجج، ينتصر “دوركايم” لما هو اجتماعي وليس لما هو فردي. فالانتحار الأناني لا يقع إلا إذا تهيأت أسبابه الاجتماعية، وحينها يستسلم الفرد لأقل صدمة من صدمات الظروف المحيطة، من قلق وحيرة وتصدع وصدمة وغياب المعنى، مما يوقع الفرد في أحضان الانتحار. وبكلمة، فإنّ الانتحار الأناني هو تعبير عن تراخ عن الفعل في المجتمع، وهو انفصال سوداوي، ينجم عن حالة مفرطة من التفردن. حيث أنّه إذا انعزل الفرد، فلأنّ الروابط التي توحده بالآخرين وهنت أو تقطعت. لذا فهذه الفراغات التي تفصل الوجدانات وتجعلها غريبة بعضها عن بعضها الآخر، تنبع بالتحديد من تحلل النسيج المجتمعي.
2- الانتحار الغيري
يمثل النوع الثاني من الانتحارات التي عرفتها البشرية منذ القدم. فقد كان يقع في لحظات تاريخية وفي ظروف سوسيوثقافية مختلفة. ولهذا استخلص “دوركايم” من خلال تتبعه لأهم ما كتب في الموضوع، أنّ وقوع مثل هذه الانتحارات، “متواتر لدى الشعوب البدائية”، وقد توقف الباحث على ثلاثة أنواع منه:
– انتحار الرجال الذين بلغوا عتبة الشيخوخة أو أصيبوا بمرض.
– انتحار النساء بعدما فقدوا أزواجهن.
– انتحار الحاشية أو الخدم أو الجنود، لدى موت زعمائهم.
ولعل في هذه الأنواع الثلاثة، ما نجده منتشرًا في بعض الشعوب حتى في أيامنا هذه. ولهذا فهذه الأصناف تقربنا من طبيعة هذا الانتحار وتعريفه. وهو الذي يقع عندما يكون الفرد مندمجًا بشكل قوي مع المجتمع. وعلى عكس النوع الأول (الأناني)، فإنّ “الفردانية الناقصة” تحدث النتائج نفسها وهو الانتحار.
وهذا النوع، يقع في التجمعات الدينية المنغلقة (الكاست) وفي الثكنات العسكرية وفي لحظات الحروب والنزاعات القبلية. أما عن الأسباب التي تدفع لهذا الانتحار، فهي تتمثل في القيم المجتمعية التي تدفع للانتحار عبر تثمينه وشرعنته، لأنّه في مثل هذه الحالات، يكون ضغط المجتمع قويًّا على الفرد، وهذا الضغط يمنعه من أن يتحرك حركة خاصة واحدة. وهذا الضغط يشكل بيئة معنوية، ويمثل الأرضية الخصبة لانتعاش الانتحار الغيري.
3- الانتحار الفوضوي
ثمة بعض المسلمات التي أصبحت بمثابة بديهيات. كالتي تعتقد أنّ الانتحار ينتج عن الهشاشة والفقر والعوز وما إلى ذلك من العوامل الاقتصادية والمادية، لكن الباحث “دوركايم”، من خلال تتبعه لهذا النوع من الانتحار، قلب الطاولة على أصحاب هذه الدعوى، مبينًا أنّ السبب لا يرجع إلى الفقر والبؤس في حد ذاتهما، بل هو نتيجة لأزمات واضطرابات في النظام الجمعي ناتجة عن الأوضاع الاقتصادية. فالنتيجة التي توصل إليها “دوركايم” هو أنّ الغنى كما الفقر يسبب الانتحار الفوضوي. وقد وسمه بهذا الاسم لأنّه يأتي نتيجة الاضطراب والاختلال اللذين يقعان في المجتمع. ولعل السمة البارزة في مجتمعاتنا المعاصرة اليوم وحتى زمن إجراء الدراسة (القرن 19)، هي حالة “الفوضى الناجمة عن فقدان النظام الطبيعي أو الشرعي، والذي يحدث على هيئة فوران متقطع وفي شكل أزمات حادة، مما يتغير معها المعدل الاجتماعي للانتحار، لأنّه بفعل التحولات العميقة والنوعية التي تحصل في جل المجتمعات البشرية اليوم، فإنّ حالة الفوضى واضطراب المرجعيات، أصبحت حالة مزمنة وليست عرضية وزائلة. ولعل من بين العوامل المساهمة في هذه الفوضى، ذلك التشابك العلائقي والعولمي الذي دخلته البشرية بحيث لم يعد هناك حديث عن الخصوصيات أو المرجعيات الوحيدة أو الصفة الثقافية المميزة لشعب من الشعوب. بل إنّ الكل انسحق في الكل، وأصبحنا أمام وضع جديد سمته أنا إنسان عالمي وعولمي. بطبيعة الحال، لا يمكن الاعتقاد فقط في النتائج السلبية لهذه الموجة، والتي تبرز في أبهى صورها، في الانتحار. لكن ذلك لا يمنع من الوقوف عند بعض المؤشرات البارزة والتي وإن – كان دوركايم قد تحدث عنها في سياق مختلف – فإنّنا نزعم أنّ تحليلاته تلتقي بشكل كبير مع ما يشهده العالم المعاصر من تموجات.
خامسًا: المدخل التفسيري (الاجتماعي) لظاهرة الانتحار
بعدما فند “دوركايم” الأصل النفسي للانتحار وبين العوامل الاجتماعية المحددة للظاهرة، مستخلصًا النماذج الأكثر انتشارًا للانتحارات، فإنّ الباب الثاني من الكتاب، سيخصص لتفسير الظاهرة، انطلاقًا من أطروحته المركزية، وهي أنّ الظاهرة تنجم عن ما هو سوسيولوجي. حيث يؤكد أنّ “المعدل الاجتماعي للانتحارات لا يجد تفسيره إلا سوسيولوجيًّا، ذلك أنّ البنية الأخلاقية للمجتمع هي التي تحدد في كل لحظة القسط العددي للموتى الإراديين”. فكيف يمكن فهم هذا العامل التفسيري؟ وهل يستقيم عاملاً محددًا ووحيدًا للظاهرة المعقدة والمركبة والملغزة في آن واحد؟
لا شك أنّ المطلع على كتاب “قواعد المنهج السوسيولوجي” لدوركايم، يلحظ قوة طرح هذا السوسيولوجي عندما اعتبر أنّ من خصائص الظاهرة السوسيولوجية، كونها خارجية عن الفرد، وليس ثمة من شيء خارجي سوى المجتمع. ولهذا نفهم لماذا شدد “دوركايم” على رد تفسير ظاهرة الانتحار إلى هذا المعطى، مبينًا أنّ “الاعتراف بحقيقتها الواقعية، وتصورها كمجموع من الطاقات التي تدفعنا من الخارج إلى الفعل، على غرار القوى الفزيا-كميائية والتي نتعرض لتأثيرها. وهي أشياء من نوع خاص، وليست جواهر لفظية، بحيث يمكن قياسها، ومقارنة حجمها النسبي مثلما نفعل مع قوة التيارات الكهربائية أو المصادر الضوئية”. لهذا إذا كان هناك من خلاصة، يمكن استخلاصها من هذه الأطروحة، هو أنّ دوركايم كان ينظر إلى الظواهر الاجتماعية، ومن بينها الانتحار بمنظار السوسيولوجي الذي يرجع الظاهرة إلى موضعها الأصلي الذي تخلقت فيه وتولدت عنه، وذلك عبر موضعتها، وعبر استنطاق كل الإحصائيات والمؤشرات الرقمية التي تظهر إلى أي حد أنّ الشروط الاجتماعية هي المحددة أولاً وأخيرًا في إبراز الظاهرة. ولتوضيح الأمر بشكل جلي، يمكن قراءة هذا المقطع من الكتاب، والذي يورد فيه “دوركايم” تصوره للظاهرة، قائلاً: “… على هذا النحو يتوضح الطابع المزدوج للانتحار، فحينما ننظر إليه عبر جميع تجلياته الخارجية، نميل إلى أن لا نرى فيها سوى مجموعة من الحوادث المستقلة عن بعضها، لأنّه لا يحدث في مواقع منفصلة (أي الانتحار)، دون روابط مرئية فيما بينها. ومع ذلك فالمجموع المكون من كل هذه الحالات الخاصة المجتمعة يمتلك وحدته وفرديته، ما دام المعدل الاجتماعي للانتحارات يمثل سمة مميزة لكل شخصية جمعية”. وما يستشف من هذا التحليل، هو أنّ “دوركايم” عندما يحلل ظاهرة الانتحار وكيف تقع في المجتمع، يربط بشكل جدلي بين الاستعدادات القبلية للمجتمع لتخلق الظاهرة، أي العوامل الفاعلة فيها، وبين الميل الجمعي لتوليد الظاهرة. وهذا يعني أنّ هناك مستويين من التحليل، الأول يركز على ما هو واقعي عملي، متمثلاً في الشروط البنيوية التي تسبق ظهور أي ظاهرة، وبين القبول الاجتماعي لها. وبكلمة جامعة، مادام المجتمع هو الذي يصنع الفرد وليس العكس، فهذا يعني أنّ “القوة الجمعية التي تدفع الإنسان إلى الانتحار لا تتغلغل فيه إلا قليلاً قليلاً. فكلما تقدم الإنسان في العمر، غدا أسهل تأثرًا بهذه القوة، ذلك لأنّه يلزمه، من دون شك، تجارب متكررة لكي تقوده إلى الشعور بالخواء المطبق لوجود أناني، وبعبثية طموحات لا نهاية لها، لهذا فإنّ المنتحرين يملؤون مصيرهم بطبقات متعاقبة من الأجيال”. وكما أنّه لا يسقط مطر إلا بعد توفر الشروط الموضوعية له، فكذلك الفعل الإنساني لا يقع على أرض الواقع، إلا إذا استنفد كافة الشروط القبلية التي تدفع إلى بروز سلوك وممارسات في الواقع، ولعل الانتحار واحد من هذه السلسلة المجتمعية التي لا تتخلق إلا بوجود هذا الشرط القبلي، وهو المجتمع، وكذلك الاستعداد الشخصي الذي يتفاعل بشكل جد معقد مع مختلف الاستعدادات ليعطينا سلوكًا بهذا النوع.
يجب أن نقر، أنّ هذا التحليل الذي ساقه دوركايم لظاهرة الانتحار، سوف يعرضه لمجموعة هائلة من الانتقادات، والتي شككت في مصداقية تفسير الظاهرة بما هو اجتماعي محض، لأنّها تقع على أرض مشتركة من مجموعة من العوامل، منها ما هو مرئي وملاحظ وهو لا يمثل إلا جزء الجليد البارز، ومنها ما هو خفي وكامن لا يظهر إلا عبر سنوات وبعد إعمال آليات منهجية جد صارمة وأكثر مطابقة لظاهرة تنفلت من كل تفسير .
سادسًا: عناصر الحل المقترح من طرف “دوركايم”
لا شك أنّ عملاً بحثيًّا بهذا الحجم، إلا وينتهي إلى مجموعة من التوصيات أو الحلول أو مقدمات للعلاج من ظاهرة مؤرقة للمجتمعات، هذا على الرغم من أنّ السوسيولوجيا لا تهتم بوضع الحلول، بقدر ما تهتم بفهم الظاهرة وتحليلها وتجلية غوامضها. إلا أنّ دوركايم، – وهو الذي تعلمنا منه هذا المنهج في التعامل مع الظواهر الاجتماعية -، يفاجئنا بتقديم رؤية خاصة للعلاج من الظاهرة. فما هي وجهة نظره في الموضوع؟ وهل يمكن التعويل عليها للتغلب على الظاهرة اليوم؟
بعدما يستعرض بعض الإجراءات القانونية والدينية التي اعتمدتها بعض الشعوب في مواجهة ظاهرة الانتحار بشتى أنواعه، فإنّ “دوركايم” لا يميل إلى “تجريم” الانتحار، نظرًا لأنّه لا يقدم أيّ فائدة في مواجهته، بقدر ما يؤزم الوضع أكثر. بل أقصى ما يمكن الوصول إليه، هو الحرمان من استفادة المنتحر من الطقوس الدينية المصاحبة للميت، وهذا ما يتوافق مع ما تنص عليه الكثير من الديانات السماوية.
بيد أن “دوركايم” لا يستسلم لهذا الطرح، معتبرًا أنّه غير كاف للقضاء على الظاهرة، فما سيتفيد المجتمع إذا ما وضع قانونًا زجريًّا أو رسخ طقوسًا تدين الانتحار؟
لهذا نجده يتتبع بعض الحلول التي عبر عنها من سبقوه بالدراسة للموضوع، أمثال “فرانك” والذي اعتبر أنّ أهم ما يمكن الاستثمار فيه لتجنيب المجتمع معضلة الانتحار، هو التربية، عبر “الاشتغال على تطوير الطبائع والقناعات” بما يستقيم مع ميلاد قيم جديدة تقدس الحياة وتدنس الموت كيفما كان.
وعلى الرغم من أنّ هذا الطرح، قد يعتقد البعض أنّه يتماشى من التوجه الدوركايمي في سوسيولوجيا التربية – على اعتباره من أوائل من بلور هذا التخصص – لكن الشيء المفاجئ هو أنّ “دوركايم” يتساءل: أليست “التربية سوى صورة عن المجتمع وانعكاس له، فهي تحاكيه وتعيد إنتاجه بنحو مجمل، ولكنها لا تخلقه؟”.
ولهذا لا يمكن عمليًّا الاعتماد على شيء هو جزء من “أزمة” المجتمع. لأنّ هذا الأمر يعيدنا إلى جدل لا يتوقف: من يصلح من: التربية أو المجتمع؟
ويتساءل بعد ذلك “دوركايم” هل يمكن التعويل على المجتمع السياسي لإصلاح المجتمع وبالتالي لإيقاف آفة الانتحار؟ أم وجب الاعتماد على المجتمع العائلي (الاسري) في تدعيم قيم الترابط المجتمعي وإعادة اللحمة له؟ أم أنّه وجب اللجوء إلى الدين، باعتباره يتضمن معاني سامية وقيمًا عليا تستطيع أن ترفد المجتمع وتخرجه من براثن التفكك والترهل إلى العافية والتلاحم؟
بخصوص التعويل على الجماعة السياسية، فهو غير مأمون العواقب، نظرًا لترهل العلاقة بين المواطن وهذه الجماعات التي ابتعدت عن تأطير الفرد وتربيته بشكل واضح ومستمر. وعلى الرغم من بروز بعض حالات التشبب بهذه الجماعات في حالات استثنائية، كالحروب والنزعات والاضطرابات، فإنّها تبقى موسمية ولا تعكس التجذر الحقيقي لهذه المؤسسات في بناء المواطن الفرد. ولهذا فإنّ هذه الحالة المتقطعة والمتوترة بين الفرد والجماعات السياسية، لا تمنع من حصول انتحارات بشكل مضطرد. ولعل في هذا المثال ما يذكرنا بما آلت إليه الأوضاع اليوم، من موت السياسة ومن فقدان الثقة بين المجتمع السياسي والمواطن العادي، لدرجة يصعب معها تصور علاقة متداخلة ومتواشجة ومتلاحمة.
لعل قائلاً يقول: عن العاصم من هذه الآفة الاجتماعية، هو الدين، فهو الأمضى سلاحًا مقارنة ببقية العناصر؟ وهذا القول، نجد من يكرره اليوم في المحافل العلمية واللقاءات الأكاديمية والنقاشات العمومية، بل إنّ بعض جماعات الإسلام السياسي اليوم، تؤكده، نظرًا لأنّه يشكل الصمغ التي تنضغط فيه كل الآفات و”الأمراض”. لكن “دوركايم” و – وإن كان يتحدث في سياق الانتقال من الفكر الكنسي إلى الفكر العلمي في أوربا القرن 18 و19، – فإنّه مع ذلك، حاول أن يبين أنّ هذا الرابط (الدين)، فقد الكثير من عناصر قوته وامتداده داخل المجتمع الحديث، فعلى الرغم من “التفوق الأخلاقي والفكري للعقيدة، لا يمكنه أن يمارس أي تأثير فيى الانتحار”. ولعل أقوى الأمثلة يمكن تقديمها اليوم، من الدول الإسلامية والمغرب واحد منها، فعلى الرغم من أنّ الحس العام المجتمعي مصبوغ بصبغة دينية بارزة، فإنّ ذلك لم يمنع الظاهرة من الاستفحال، فحسب التقرير الصادر عن منظمة الصحة العالمية المشار إليه آنفًا، فإنّ المغرب عرف تطورًا في السنوات الأخيرة، ما بين (2000-2014) في ظاهرة الانتحار. ولهذا فإنّ ذلك ما يؤكد محدودية هذا العامل كما ذكر “دوركايم”.
بالموازاة مع ذلك، هناك من طرح أنّ الحل، يكمن في الجماعة العائلية، والتي تعد البيت الدفيء لاحتضان الفرد ولتعزيز روابط التلاحم بين مكونات المجتمع؟
وبالفعل، فقد توقف “دوركايم” عند هذا العنصر، شارحًا له ومقدمًا مجموعة من التوضيحات بشأنه. حيث يرى “دوركايم”، أنّ العائلة طرأت عليها تغيرات كبيرة في بنيتها وفي وظيفتها، ولم “تعد تمارس التأثير الواقعي نفسه الذي كان لها في ما مضى”. ويضيف أيضًا: “ففي حين كانت العائلة قديمًا تصون أغلبية أعضائها الذين يعيشون في كنفها منذ ولادتهم وحتى مماتهم، مكونة كتلة متراصة عصية على الانقسام، موهوبة نوعًا من الخلود، لم يعد لها اليوم سوى ديمومة عابرة، فما تكاد تتشكل حتى تتشتت، وما إن يترعرع الأولاد جسديًّا حتى يذهبوا ليتابعوا حياتهم في الخارج”. ونحن لا نستغرب من هذا التحليل، فعلى الرغم من أنّنا نتباعد زمنيًّا وسياقيًّا مع زمن الدراسة، فإنّ هذا التحليل، ينطبق بأجلى صوره في واقعنا المعاصر، سواء في المجتمعات الأوربية والأمريكية أو حتى في المجتمعات العربية الإسلامية، حيث فقدت العائلة الكثير من أدوارها ووظائفها التنشئوية والتثقيفية والتربوية، لتحل مكانها وسائط جديدة، رسخت تلك القطيعة بين أفرادها. ولعل المثال الصارخ على ذلك، هو بروز الأسر النووية، والتي تعد مؤشرًا على انحلال الروابط الأسرية، مما أصبح معه الفرد يتيمًا في مجتمع فيه إفراط في الأنانية المجتمعية. ولهذا لا نستغرب إذا ما وجدنا الانتحارات تكثر في السنوات الأخيرة، في جل هذه المجتمعات.
لكن ما هو الحل بالنسبة إلى دوركايم؟
يقدم “دوركايم” حلاًّ – قد يعتبره البعض بعيدًا عن العلاج الحقيقي للظاهرة – إذ أنّه يتحدث في نهاية بحثه عن “الجماعية الوظيفية” أو ما يمكن أو نطلق عليه “النقابات العمالية والوظيفية”. ذلك “أنّ التماثل في الأصل والثقافة والاهتمامات يجعل النشاط المهني المادة الأكثر ثراء لحياة مشتركة، إنّها أكثر من إطار تنظيمي، بل إنّها وسط أخلاقي”. قادر – حسب دوركايم – على أن يقدم عناصر التلاحم والترابط لأفراد المجتمع. لأنّ التنظيم الحرفي (أو النقابي)، لا يجسد – دائمًا حسب دوركايم – وحدة تنظيمية فحسب، بل إنّه كيان يتوفر على قيم أخلاقية وآداب وأعراف وله حقوق وواجبات، يمكنه إذا توفرت بعض شروط إصلاحه وتأهيله، أن يؤدي أدوارًا جد طلائعية في التخفيف أو القضاء على معضلة الانتحار.
طبعًا، يمكن القول إنّ هذا الحل قد يواجه اليوم – على الأقل – بعدة اعتراضات جد وجيهة، وهي أنّ هذا التنظيم لم يعد بدوره يستقطب الكثير من الموظفين والعمال والمستخدمين، فقد غدا بدوره – أي التنظيم النقابي – جد متأخر عن السيرورات والديناميات المجتمعية المتسارعة، وبدا وكأنه غير قابل للإصلاح أو الرجوع إلى اختلال مكانته السابقة، في ظل منافسات شرسة يقدمها الإعلام الجديد، والشبكات الافتراضية وكل الوسائط الجديدة. علاوة على أنّ هذا التنظيم لا يشمل الحياة المجتمعية ككل، فهو يقتصر على شريحة من العمال والموظفين والمستخدمين (أي شريحة متوسطة أو متوسطة عليا من المجتمع) في حين أنّ باقي الفئات غير ممثلة فيه. زد على ذلك هامشيه حركيته في كل تفاصيل المجتمع، مما نعتقد معه، أنّه يصعب التعويل عليه في القضاء على معضلة بل هي آفة تحتاج في نظرنا إلى تظافر الكثير من العوامل والمداخل، منها ما ذكره “دوركايم” كالعامل السياسي والديني والعائلي والتربوي، بتجديد وظائفها بإعادة موضعتها التموضع المطابق. ونضيف إليها اليوم العامل الإعلامي، باعتباره عاملاً حاسمًا في صناعة الرأي والأذواق والاتجاهات والميول والممارسات.
( تأليف: “إميل دوركايم”. ترجمة: حسن عودة. وزارة الثقافة، الهيأة العامة السورية للكتاب (دمشق). سنة: 2011. عدد الصفحات: 514)
المصدر: مؤسسة مؤمنون بلا حدود