في رحاب العلوم الانسانية  في رحاب العلوم الانسانية
recent

آخر المقالات

recent
random
جاري التحميل ...

شمولية شكسبير الخاصة

https://philoethik.blogspot.com/
باسم جامعة محمد الخامس، واتحاد كتاب المغرب العربي، أحيي حضوركم المحترم، وأشكر جميع الذين ساهموا في تنظيم أسبوع شكسبير.

إننا، إذ نقيم الذكرى الأربعمائة لميلاد شكسبير، نحتفل بإحدى كبريات العبقرية الإنسانية، شأن ما قمنا به، منذ سنة خلت بالنسبة لابن خلدون والإدريسي،(1) وقبل سنتين، بالنسبة لـ (بليز باسكال) و(جان جاك روسو).
وسأكتفي بالحديث عن الموضوعين التاليين :
- أولا : المغرب في آثار شكسبير
- ثانيا : الشمولية في آثار شكسبير
منذ عدة قرون خلت، قبل عصر شكسبير، حاولت بريطانيا تأسيس علاقات تجارية ودبلوماسية مع المغرب، وذلك بواسطة تجارها ومغامريها والمكلفين بالمهمات.
فبفضل ما سجله الإنجليزيون، من رحالة وملاحين ومحاربين وتجار، تكونت نظرة مستملحة عن المغرب، أثارت الفضول والاستشراف إلى بلد الشمس والسكر. هكذا لم يكن المغرب مجهولا من الأوساط الرسمية والتجارية والثقافية، بإنجلترا. فمنذ سنة 1577 م، أقامت الملكة (إليزابيت) علاقات ديبلوماسية مع المغرب حين عينت (إدموند هوكان Edmond Hogon) سفيرا لدى السلطان عبد الملك. فحسب حولية قديمة وصلت أول بعثة دبلوماسية إنجليزية إلى المغرب بتاريخ 1211، وقد وفدت باسم الملك جون (John) تلتمس عون الامبراطور المغربي محمد الناصر. لقد كانت إنجلترا آنذاك تبحث عن وسائل دبلوماسية وحربية للمحافظة على ممتلكاتها بـ "آكتين" (مقاطعة بالجنوب الغربي لفرنسا) التي كانت مهددة من قبل جيوش إسبانيا.(2) لذا لا يستغرب أن يهتم شكسبير بحاليات بلاد المغرب يومذاك طبقا لما أكده بنفسه من أن الفن الدرامي يجب أن يعكس اهتمامات عصره. فأصبح عاديا أن ترد كثيرا كلمات "بربري Barbare و"مغربي Maure ضمن مؤلفات شكسبير، وأن يحتوي مسرحه ثلاث شخصيات مستلهمة من بلادنا، اثنتان تسربلهما النبالة : (عطيل) في المسرحية التي تحمل اسمه، و(مغربي البندقية) في مسرحية "تاجر البندقية" وثالثهما هو (هارون) اليهودي المغربي، في مسرحية (تيتوس أندرو نيكوس Titus Andronicus).
كان المغرب، إذن، نابه الذكر، باعتباره بلد الشمس، والسكر، والذهب، وكذا بلد الشجاعة، والحب الرقيق، وغيرة العشاق. فلا غرابة أن يكون (عطيل) مغربيا، ملأ عروقه الشمس، ملتهب الحب، غيورا، أعمى في غيرته، شجاعا إلى أقصى حدود الشجاعة.

عطيل (Othello) قائد مغربي في خدمة جمهورية البندقية، استطاع، بفضل استقامته وشجاعته، أن يتمكن حبه في  فؤاد (دسد مون Désdémone) النبيلة، ابنة عضو من أعضاء مجلس الشيوخ، فانتهى ذلك الحب بالزواج.
كان (ياجو Iago) ملازما ثانويا في قيادة (عطيل). وحينما عين (كاسيو Cassio) ملازما له، جاشت نفس (ياجو) بثورة الانتقام والدسية، وأوقع بـ (كاسيو) في فخ إجرامي قوض به العش الذي بناه (دسد مون) و(عطيل) بحبهما الكبير. لقد دفع الحسد (ياجو) إلى الحقد على سعادة هذين الزوجين الشابين الذين جعلا من زواجهما التقاء عنصرين، وثقافتين، وقارتين، وذلك حين نفث الشك في نفس المغربي الطيبة، حتى جعله يعتقد أن (ديد مون) تخونه مع ملازمه (كاسيو).
وفي أزمة من الغم واليأس وبحران من الغضب، امتزج فيه الحب والكراهية، أصيب (عطيل) بنوبة جنونية أعمته، فكسر ما لا سبيل إلى جبره : لقد قتل زوجته ! أعدم حبه ! فليس في الكون قوة تستطيع أن توقف سعار غيرة المحبين إذا خامرهم الشك. وعندما اكتشف (عطيل)، والأسى يحطم كيانه، أن زوجته ظلت عفيفة حتى الرمق الأخير، وتراءى له ظلمه لها ولحبهما، نمت حيرته، وجن جنونه أكثر، فارتمى في عماء نفساني، مقتصا لنفسه من نفسه. حقا، لقد قتل زوجته، حبا فيها وها هو ينتحر، انتقاما لهذا الحب. فكما أن (جولييت) لم تطق موت (روميو)، كذلك لم يستطع (عطيل) تحمل الحياة. بعد (دسد مون) :
"
أرغب إليكم، حينما تقصون قصتي، في رسائلكم، أن تذكروني بحقيقتي، لا بمزيد ولا بنقصان وألا تدخلوا فيها شيئا من المكر السيء.
فإذا فعلتم ذلك، وصفتم حال رجال لم يعشق بتعقل، ولكنه كان خالص السريرة، متجاوز الحد في حبه، رجل دافع الغيرة عن نفسه جهده.
فلما تمكنت منه تمادى فيها إلى النهاية".
الممثل المسرحي يشخص ردود فعل كائنات تحيا في وسط إنساني حيث النمو النفساني يخضع لا لحاجات البيئة، ولعلاقات تترابط وتنفك بين أناسي هذه البيئة. لكل منا نصيبه في الرصيد المشترك من الاستعدادات الأساسية. إننا جميعا مكونون من تداخل وتضارب الظاهرات المتناقضة. لذلك نحيا صراعا نوعيا مستديما بين عدة أنماط ممكنة من الأجوبة.
إن وجداننا يتطور حسب تقلبات متعاقبة ف (عطيل) ينزل إلى المعارك، مواجها الموت دون أي انفعال. إنه بطل، سيد نفسه قوي، مريد، لكنه رغم ذلك يخضع، خضوعا أعمى، للعاطفة وللغيرة.
و(أنطونيو) الذي يتنسم مصير أضخم إمبراطورية في العالم، هو أيضا يجثو أمام (كيلوباطرا) متخليا عن حريته، وإرادته، ومسؤولياته، بل يخاطر بحياته. ليس هناك عامل مؤسس يعطى مرة واحدة، وبصفة نهائية : ففي كل فترة من الحياة، يمكن أن تتغير نسب العناصر المكونة لمزاجنا. يستطيع الشخص الواحد أن يجد، لدى البيئة الواحدة، جوابا متقلبا، سواء من الوجهة الفكرية أو الانفعالية، لموقف ما. الإنسان، في جبلته، لا يولد خيرا بصفة تامة، كما أنه لا يولد شريرا بصفة تامة. كثيرا ما يتغير رد الفعل، من كائن إلى آخر، ولكنه لا يخرج، أبدا، عن إطار مشترك بين جميع الناس.
فمسرحية "عطيل"، كمسرحية "هاملث" رغم كونهما قصتي قتل وانتحار، يتعديان الميلودراما ليعطياننا نماذج من التحليلات النفسانية التي بلغت حدا بعيدا في براعة الدقة والعمق.
فليس هناك، على المستوى الفردي حالات قارة تجمد الشخص، وتتحدد عندها إمكانياته، لهذا نجد، في انفعالات (عطيل)، انعكاسات لنا. فمن خلال هذه المسرحية، تجاوز شكسبير ما هو فردي إلى ما هو شمولي. ذلك لأن مأساة هذا البطل هي، قبل كل شيء، مأساة الغيرة، الغيرة الخالدة التي لا تبلى أبد الدهر.
ستبقى مسرحية "عطيل" تجسيدا حيا وفريدا لعبقرية شكسبير الشمولية. وستجسد آلامنا الخالدة، طالما سنجيش بعاطفة الحب، نعني ما دمنا ننتمي إلى الجنس البشري.
تدور مسرحية "تاجر البندقية"، هي كذلك، حول فكرة الشمول، إذ تنبئ عن موقف كريم وتقدمي لشكسبير، ألا وهو شجب العنصرية.
يعلن (الأمير المغربي)، في رقة ودماثة، إلى (بورسيا) الجميلة، وهو يطلب يدها :
"
لا تنفري من أديمي !
إنها سترة سمراء نسجتها شمس ساطعة قد تغذيت من أشعتها، في مسقط رأسي.
إن دمي لقان مثل سكان الشمال
وإن مرآه ليبعث الفزع في قلوب الشجعان
وكيما أكسب حبك
سأجرأ على ذوي البأس
وأقتحم عرين الليث وهو يزار في أوج غنيمته".
(عطيل) كذلك أسمر اللون، إنه من السلالة "البيضاء" أحمر بياض بشرته من كثرة ما لامستها الشمس، أما قبل عصر شكسبير، فالإنجليز كانوا يصفون المغاربة بـ "السود" وبـ "الزنوج"، في المعنى القدحي للكلمتين.
إن (شيلوخ Shylock، وهو الشخصية الرئيسية في مسرحية "تاجر البندقية"، ليس مرابيا بطبيعته. فإذا كان الربا يستوجب العقوبة، فهذا لا يمنعنا من أن نجد لموقف (شيلوخ) تبريرا نفسانيا. إن الثروة، بالنسبة إليه، قوة تمكنه من مواجهة كل من يحقد على الأقليات الدينية أو العرفية، كما تمكنه في بعض المناسبات، من تأكيد شخصيته، مع شيء من الافتخار بالنسبة لأولئك الذين يبصقون في طريقه، أو يركلونه بالأقدام. لنستمع إلى (شيلوخ) يصف حزازته. فمن خلال هذا الوصف الذاتي، يعي (شيلوخ) ذاته، وبقيمها من جديد، بالنسبة له وبالنسبة لخصمه (أنطونيو).
"
لقد مس بكرامتي، وحرمني نصف مليون جنيه.
إنه يضحك من خساراتي مستهزئا بأرباحي، محتقرا لجنسي.
معوقا مضارباتي، باعثا البرودة في أصدقائي، مثيرا حماس أعدائي.
ومن أجل ماذا ؟
لأني يهودي !
ولكن أليس لليهودي عيون ؟
أليس له يدان ؟
أليس له أعضاء، وحواس، ومشاعر، وانفعالات، وعواطف ؟
ألا يتغذى بنفس الغذاء ؟
ألا تجرحه نفس الأسلحة ؟
ألا يكون عرضة لنفس الأمراض ويداوى بنفس الوسائل ؟
ألا يحس ببرد الشتاء وبحرارة الصيف شأن أي مسيحي ؟
ألا ننزف إذا جرحتمونا ؟
ألا نضحك إذا دغدغتمونا ؟
وإن سممتمونا، ألا نموت ؟
وإن واجهتمونا بالشر، ألسنا ننتقم ؟
فإذا كنا، مثلكم، في باقي الأمور، فنحن مثلكم في هذا أيضا.
لو أن يهوديا اقترف شرا، في حق رجل مسيحي، ترى ما يكون جزاؤه ؟ الرحمة ؟ لا، بل الانتقام !!
ولو أن مسيحيا اقترف شرا، في حق يهودي، أيلزم أن يكون تسامحه على غرار المسيحي ؟
يجب الانتقام !
سأنفذ ما علمتموني من كره :
وسأكون تعسا إذا لم أفقكم فيما لقنتموني من تعاليم".
ثورة "شيلوخ" الخانقة ثورة رجل يعتبر "حقيرا" ثورة يهودي ينتسب إلى الأقلية، السلالية والدينية. لأول مرة يعي (شيلوخ) وضعه حيث يشعر أنه يحاور أحد نبلاء البندقية، محاورة الند للند.
لم يعد المال مجرد وسيلة مادية، أو شيئا من الأشياء العادية، بل صار قيمة أنطولوجية وأخلاقية، في آن واحد، وبالأحرى تواصلا نفسانيا. إن تملك المال يحرضه حب (شيلوخ) للثراء، أي للجاه وللقوى فانتساب (شيلموخ) إلى أقلية العرق والاعتقاد يجعله ضعيفا، أما انتسابه إلى طبقة الأغنياء فيكسوه مهابة المحظوظين. إذا تكلم، كانت لألفاظه وزنها من الفضة والذهب، وإذا وعد كان لوعده حسابه. فالملكية تنمي أبعاد شخصيته المجتمعية. ففي ثراء (شيلوخ) تعويض عن الاستلاب والحرمان. بالمال تكتمل إنسانيته في نظر بيئة جعلت من الملكية محور مقاييسها وفعالياتها.
لا شيء يدعو إلى الاعتقاد بأن حب المال أصيل في دم (شيلوخ) وعرقه، فقد كان ممكنا ألا يكون في جشعا مطلقا لولا وجوده في بيئة يتواجد فيها مع أمثال (بسانيو bassanio) و (أنطونيو Antonio) و(بورسيا Portia). من الممكن، كذلك، أن نتصور (شيلوخ) في بيئة كهذه مع ميل إلى جمع المال، ولكن نحرص أقل توترا، أو بأشكال أخرى غير الربا. فوضعه وضع خاص. إنه يرمي، من وراء ثروته، إلى تحقيق وجوده وجودا مجتمعيا سويا.
في الفصل الثالث من مسرحية "تاجر البندقية"، عندما سئل (شيلوخ) عما سيفعله بالرطل من لحم (أنطونيو)، أجاب، بكل وضوح :
" ...
اصطياد السمك.
فإذا لم يفد في أي شيء آخر، فعلى الأقل سيشفي غليل انتقامي"
الواقع أن الانتقام الذي يتحدث عنه (شيلوخ) لا يتغذى من خبث أو سوء طوية أصيلة : (شيلوخ) لا يشتاق إلى الانتقام يسمح له باستملاك هويته من جديد. فيفضل هذا الموقف، يحقق ذاته بوصفه إنسانا، ويلح على أن يعترف به الآخرون كإنسان، على قدم المساواة مع كل واحد منهم. فلننصت إليه وهو يخاطب (أنطونيو) عندما أتاه يستقرضه مالا :
"
سيدي (أنطونيو) !
ما أكثر المرات التي طاب لك فيها، ونحن في (الريالطو) أن تسبني، من أجل مالي ومصالحي ! ..
فكنت أتألم، دائما، مكتفيا بهز كتفي، في صبر، ذلك أن المعاناة من خاصيات قومي.
كم دعوتني بالكافر، ودعوتني بكلب قطاع الطريق !
كم بصقت على ثيابي لأنها اللباس الخاص باليهود !
كل ذلك لأني أستعمل ما أملك.
والآن، على ما يظهر، أنك في حاجة إلى مساعدتي عجبا، إذن !
ها أنت تأتيني لتقول :
(شيلوخ)، نود لو تقدم لنا نقودا !
نعم. أنت تقول ذلك !
أنت الذي قذفت ببصاقك على لحيتي.
وتداولتني أقدامك بالضرب كجرو غريب، بعيدا عن عتبة خطوتك :
هي الدراهم التي تطلب مني :
ماذا يمكنني أن أجيبك به ؟ ألا يمكن أن أقول : "هل للكلب نقود ؟
أيستطيع الجرو أن يقرض ثلاثة آلاف درهم ؟"
أم يجب علي أن أجثو أمامك صاغرا، وأقول في لهجة الخادم، مختنق الأنفاس، وفي همهمة خاشعة :
"
حضرة السيد الفاضل !
لقد بصقت علي يوم الأربعاء الماضي، وناديتني بالكلب، ومن أجل هذا التلطف، سأقرضك مقدارا من النقود"
يظهر (شيلوخ) كرجل من رجال المال الذين ينمون دراهمهم عن طريق القرض، أما (أنطونيو) فيمثل رأس مال مستثمر في المضاربات التجارية. فهما معا يمثلان شكلين مختلفين لذهنية واحدة تحركها نفس الاهتمامات. ف (شيلوخ) لم يأت ببدعة، وإنما يقوم بعمليات تجارية رأسمالية لها ماضيها العريق في القدم : القانون المدني بحميها، والجميع يحترمها.
أيجوز لرجل ينتسب إلى الأقلية المضطهدة، مثل (شيلوخ) أن يخاطر بثروته في مشاريع بحرية، خصوصا وأنها إقطاع تحت سلطة الأسر النبيلة، لا تسمح لغيرها بالمزاحمة ؟ أن الأقليات، من الناحية النفسانية، تعيش في قلق دائم، مهددة بالمصادرات ومزاحمة الأكثرية، لهذا كان (شيلوخ) ملزما بأن يختار تنمية ثروته عن طريق القروض لا عن طريق العمليات التجارية  التي تلزمه بأن يفترق عن ماله وينتظر وصول السلع، ثم يبيعها... إن المضاربات تقوم بها شركات لا أفراد منعزلون فمن بين أغنياء البندقية يرقى بأن يشترك مع يهودي "كافر"، من كلاب قطاع الطريق، يهودي من الجنس "الوضيع" والدين "المزيف" ؟
هكذا كان (شيلوخ) منقادا، مرغما على المعاملات بالربا، عوضا عن المتاجرة على الشكل الذي يتبعه (أنطونيو) ومواطنوه البندقيون "النبلاء"، "الأحرار". ومن هنا فإن مسرحية "تاجر البندقية" تمتاز بمعاداة العنصرية، وتجعل من شكسبير رائدا من رواد التقدمية والشمول.
عبقرية شكسبير، عبقرية متعددة الجوانب، تنعكس في آثار تشمل حلبات متعددة متنوعة، وترغمنا على أن نماشي كل مراحل تطورها، على مختلف المستويات سواء في الهزليات أو المآسي. فالهزليات تكون عالما سحريا (مثلا : "ثرثارات وندسور المرحات" و"حلم ليلة صيف" و"ليلة الملوك". لكن مزاح تلك الهزليات يتحلى بسحر وملاحة، دون أن يتعارض مع المعنى الدرامي لمصير الإنسان الذي يحياه أبطال المآسي الشكسبيرية. فالدراما والمهزلة تتكاملان.
قد اهتم شكسبير بأن يرسم الإنسان بجميع أبعاده، الإنسان –الكل، في أطواره النفسانية المتغيرة. إن العظمة الشخصية، في المسرحيات التاريخية، ك "هنري الرابع" و"رشارد الثالث"، لا تتناقض، أبدا، مع الطابع الغنائي أو مع وحدة الدراما وتأثيرها : فهذيان الملك (هاملط) المهمومة الجريحة، والغرور الجنوني المجرم عند (لادي مكبث Lady Macbeth) والحب المعاكس لدى (روميو وجولييت)، ويوليوس قيصر) ولعنة السلطة التي حلت ب (بوليوس قيصر) وجنونها، كل ذلك ليس إلا بعض ما يشكل هذا العالم الشكسبيري الحافل.
كم قوي تخونه القوى وينهار، فيظهر لذاته في القالب الصغير : إنسانا عاديا، كبقية الناس. فلا أحد يستطيع أن يحتكر العظمة، لا (مكبث)، ولا (يوليوس قيصر)، ولا (أنطونيو)، ولا (كيليوباطرا) ..، لا أحد يمتلك الحصانات والضمانة إزاء الجنون والتعاسة، حتى ولو تعلق الأمر بالدكتاتور (يوليوس قيصر) أو بالأمير (هاملت). إن لطافة الحب عند (أوفيليا) و(جولييت) هي منبع قدرهما المأساوي. لكن (أوفيليا) و(جولييت) سحرتا (هاملت) و(روميو)، دون أن تجعلاهما سعيدين، ودون أن تكونا هنا سعيدتين.
إن السعادة تبدو دائما معاكسة للحب وللجمال، وللعاطفة المتأججة، وللسمو.
الوحدة والجنون يضربان عظماء الناس، كما يضربان صغارهم. فما من قوة تحول دون الهم والقلق إ يجتاحان القصور، ويزعزعان العروش، فالملك (ليسر)، بالرغم مما له من سلطة مطلقة على رقاب جماهير كثيرة من البشر، قد نال حظه من الزلل المنطقي، والعزلة القاتلة، والجنون. جميع الناس، بقطع النظر عن حيثياتهم، يطبخون من نفس الطين : إننا لا نكسب شيئا بكامل الاطمئنان، لأننا جميعا لعب بين يدي قدر لا يغلب.
فلنتأمل حال الملك (ليسر)، الملك الأحمق، وهو يحاور ابنته كورديليا الأميرة السابقة، فريسة الضياع :
كورديليا 
"
لسنا أول من عانى الأمرين، رغم نبل النوايا.
فمن أجلك، أيها الملك التعس قد تحطمت قواي.
إن في إمكاني أن أتحدى كل تحديات الحظ الخداع.
ألن نرى تلك البنات والاخوات ؟"
ليسر
" "
لا! لا! لا! اذهبي، ولنسرع إلى السجن :
لوحدنا، نحن الاثنين، سنغني كطيور في أقفاص.
وعندما تطلبين مني دعوة بركة، سوف أجثو وأطلب منك العفو :
هكذا سنحيا : نصلي، ونرتل، ونستذكر قصصا قديمة.
وسنضحك للفراشات المتألقة.
ونصغي إلى الأبالة الأشقياء
ونتكلم عن ضوضاء القصر
ونتحدث عمن أخفق أو نجح، عمن يواتيهم الحظ وعمن يتنكر لهم
ونفسر أسرار الأشياء.
كما لو أن الإلاه كلفنا باستراق السمع، ونحن بين جدران السجن، غير آبهين بعصابات الكبراء وأحزابهم، وهم يتغيرون مع القمر.
إن شكسبير، بفضل ما له من حس واقعي مرهف، يتجنب أن يتجلى عالمه الدرامي عالم نماذج بشرية مصطنعة. وهكذا فالكاريكاتورية غير مرادفة للشمولية. ليس هناك، مثلا، "الأنوثة الخالدة" المرأة النموذج، ولكن هناك "نساء" يختلفن بطبائعهن، كما هو الأمر في الواقع. لذلك نجد السمو عند (كورديليا) بنت الملك (لير)، والمرأة الطموحة الخبثة (لادي ماكبث)، كما نجد المرأة التي يتناقض فيها العقل والرزانة مع الاستسلام إلى العواطف (كيليوباطرا). تلك أمزجة وطبائع نسجت في الحياة الواقعية، كما هي. أما (شيلوخ) فيجسد النداء إلى التسامح. من خلال هذه الشخصيات وأمثالها في الهزليات والمآسي، نرى أن شكسبير قد اتخذ، من أربعة قرون، موقف تأييد للتقدم والتفاهم بين الناس. إنها نزعة قد يسميها بعضهم اليوم "ثورية"، هكذا يرتقي بنا شكسبير إلى مستوى نعي فيه مأساة لأقليات وضحايا التعصب الديني أو العنصري، مأساة جماعات جردت عن العنصر الأصيل النوعي في الكرامة الإنسانية، الاعتراف لها بالمساواة، فالفيزيزلوجية والمعنوية مع كل الناس :
"
إننا من نفس الثوب الذي تصنع منه أحلامنا، وإن حياتنا محاطة بالنوم، كما يقول الساحر (بروسبيرو Prospero) في مسرحية (العاصفة) ؟
نفس الصدى لتلك العزلة المضنية، لذلك "الهجر" الذي يتحدث عنه الوجوديون اليوم، نجده يتردد على لسان الغاصب القاتل (مكبت) في المأساة التي تحمل اسمه : "غدا، وغدا، وغدا"
كل غدير يزحف بهذه الخطى الحقيرة، يوما إثر يوم، حتى المقطع الأخير من الزمن المكتوب.
وإذا كل أماسينا قد أنارت، للحمقى المساكين، الطريق إلى الموت والتراب.
ألا انطفئي أيتها الشمعة الوجيزة !
ما الحياة إلا ظل حائر
ممثل مسكين يتبختر ويستشيط ساعة، على المسرح.
ثم لا يسمعه أحد
إنها حكاية يحكيها معتوه، ملؤها الصخب والعنف ولا تعني أي شيء"
(مكبث) يجسد الضمير وقد استحوذ عليه عدم الاطمئنان، وحاصرته آلام الطمع والغش والإغراء، أنه حصار وعاه (مكبث)، ولكن لا منفذ ولا منقذ، وإنما المجرم، وجها لوجه، مع ماضيه المعذب، في عزلة ثقيلة كثيفة. فلا مفر من الحساب...
و(جاك Jacques) في مسرحية "كما يطيب لك" : حزين هو أيضا، بل انعزالي، متشائم بعض الشيء : فالعالم أجمع، بالنسبة إليه، ليس سوى مسرح، وكل من فيه، من رجال ونساء، ليسوا إلا ممثلين، في غدوهم ورواحهم، فهذه المسرحية الأخيرة، وإن كانت تمتاز بخفة الروح، تمتزج فيها متعة الحياة الهادئة بالحسرة والأسرى كما هي الحياة في الواقع، دائما مزيج.
(جاك)  منغلق على نفسه، لا يؤمن كثيرا بالتواصل بين الذوات. لذلك يصرح بأن ما يكتبه ليس شبيها لما يكتبه الآخرون : إن كتابته ليست "كتابة التلميذ العاجز عن المنافسة، ولا كتابة أمين البلاط لأنها كبرياء، ولا كتابة المحامي لأنها سياسية، ولا كتابة السيدات لأنها كتابة التأنق، ولا كتابة العاشق لأنها كل هذه الصفات مجتمعة. كتابتي، كتابة خاصة بي، عناصرها كثيرة".
بما أن شكسبير فيلسوف، دون نسق، وبما أنه واقعي، دون تخمينات، وأوهام، فهو يعترف بأن الحياة زائلة. ولكنا ملزمون، كامل الإلزام، بأن نتمسك بها ونحملها على عاتقنا، إنها منبع للسأم، ولكنها، أيضا مصدر للشعر.
هنا عقدة السر والغموض، هنا ملتقى المأساة بالشعر.
شكسبير لا يحاول أن يتملق عواطف الجمهور، أو إسداء النصح الأخلاقي، بل يجهد نفسه ليرجع إلى مشاعرنا انعكاسات "الظل التائه" واضحة واعية على "المسرح الشاسع"، أي الإنسانية. لقد أبرز شكسبير على أن نتقبل مصيرنا، خلال العصور، ويجعلنا أمام كفتي الميزان، أو بالأحرى أمام الاتهام والدفاع. فالشخصيات الرئيسية، في مسرحه، تحمل عالم واقع النضال بين العقل والعاطفة، وبين فوضى الرغبات والأطماع والميل إلى الوفاء والإخلاص والحكمة. كما أكثر عمق وغنى المفاهيم التي بلورتها عبقرية شكسبير ؟
الآثار الشكسبيرية مصب يمتزج فيه الفن بالحقيقة. والمأساة بالملهاة، ولاذع السخرية بمتعة المرح. ومن هنا ستبقى إحدى المصادر النادرة لمعرفة الإنسان لذاته، ووسيلة من وسائل التواصل والوئام وللتفاهم بين الناس وبين الشعوب، على اختلاف الأزمنة والأقاليم.
محمد عزيز الحبابي


(1)  قد أصدرت كلية الآداب، في عام 1963، كتابا يضم الدراسات التي ألقيت بمناسبة مهرجان ابن خلدون (نشرته دار الكتاب، الدار البيضاء).
(2) 
راجع Neville Barbour, Morocco أنظر كذلك دراسة الأستاذ محمد بن تاويت عن علاقات الملكة إليزابيت بالسعديين، بمجلة تطوان، 8، عام 1963.

عن الكاتب

في رحاب العلوم الانسانية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

في رحاب العلوم الانسانية