تقديم:
إذا كان العنف هو إلحاق الضرر والأذى بشخص ما أو جماعة من الأشخاص، أواستعمال القوة بشكل غير مشروع، فإنه لا يتخذ شكلا واحدا فقط، بل يتوزع على مجموعة من الأشكال تغطي كافة مجالات وعلاقات التفاعل البشري، ويحافظ على دلالاته المتعددة والمتباينة على طول التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي للإنسان، يرتبط بالأفراد حينا وترعاه المؤسسات أحيانا أخرى. قد يراه هذا الطرف واجبا مقدسا بينما يراه الغير جورا وتعسفا. مما يجعل حصر دلالة العنف أمرا مستعصيا، لكنه لا يمنع من طرح الإشكالات التالية:
* ماهي أشكال العنف؟ وهل يقتصر على الإيذاء البدني الظاهر أم يتجاوزه إلى أساليب أخرى رمزية وخفية؟
* كيف تولد العنف في التاريخ؟ وما هي الأدوار التي كان يلعبها؟
* من أين يحصل العنف على مشروعيته؟ وهل هناك عنف مشروع أصلا؟ وإذا ماكان مشروعا فهل مشروعيته مطلقة أم مقننة؟
المحور الأول: أشكال العنف
1- العنف البدني: إيف ميشو
العنف الجسدي هو ضرر وألم مقصود يَنْصبّ على جسم الكائن ويدَع أثرا قابلا للملاحظة، مثل الضرب والقتل والتعذيب والحرب والتجويع...حيث يُعد العنف من الظواهر التي تلتصق بتربية الأفراد وثقافتهم مثلما ترتبط بالمؤسسات المجتمعية والأنظمة السياسية. فكما نجد أفرادا يمارسون العنف (homo Violens) كذلك هناك أنظمة سياسية بوليسية تقيم معسكرات للتعذيب المنظم. وقد أسهم التدفق التقني المعاصر في تطوير وتنويع وتيسير أساليب فعل العنف، يقول ميشو: "إن هذه التكنولوجيا المتطورة لا تجعل العنف في المتناول فقط، بل تجعله على وجه الخصوص أكثر فتكا"، زاد من هذا الفتك الاستعمال الممنهج لوسائل الإعلام التي تروج لمختلِف مظاهر الإبادة والتعذيب والتخريب...
2- العنف الرمزي: بيير بورديو
بالإضافة إلى العنف الفيزيائي (البدني) هناك شكل آخر من العنف وأكثر فاعلية يسميه بورديو بالعنف الرمزي، وهو "عبارة عن عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياهم أنفسهم، وهو عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة" كالكلام والتعليم والتربية والثقافة... فيلحِق الضرر بالغير بطريقة لا تثير انزعاجا، بل إن الذين يمارس عليهم هذا العنف قد لا يعتبرونه عنفا وقد يساهمون في إنتاجه وترويجه وكأنه حتمية وجودية، إذ يتلقى الناس أفكارا وأراء ومسلمات كأنها حقائق مطلقة وثابتة، ويَقْبلونها بكل تلقائية وتسليم. هذا النوع من التلقي يسميه بورديو بِ "الإقناع الصامت والسري" الذي يفرض الهيمنة والسلطة.
المحور الثاني: العنف في التاريخ
1- الصراع جوهر التاريخ: كارل ماركس
لا يخلو التاريخ البشري من تعاطي ظاهرة العنف، بمختلف أشكاله وأحجامه، فمنذ بدايات ظهور العلاقات والتفاعلات البشرية على وجه الأرض والمواجهة كائنة ومستمرة بين الأفراد فيما بينهم كما بين الجماعات أيضا (النقابات، الإديولوجيات..)، إذ الصراع الطبقي حسب ماركس هو الذي يحرك تاريخ المجتمعات، هذه الأخيرة التي تتصارع فيها -في الغالب- طبقتان متعارضتان من حيث الوضعيات و المصالح، طبقة الأسياد المالكين لوسائل الإنتاج (البورجوازية)وطبقة العبيد المستخدَمين (البروليتاريا)، ولم يتمكن المجتمع الحديث من القضاء على الصراع بين الطبقات، بقدر ما أقام طبقات جديدة وبالتالي أعاد إنتاج الصراع وتجديد الاضطهاد.
2- الرغبة سبب العنف: روني جيرار
باعتبار الانسان كائن راغب، تُوجِّه تفكيره وسلوكه مجموعة من الرغبات، فإن إشباع هذه الرغبات يلتصق بموضوعات معينة وتكاد تكون موحدة بين البشر، مما يجعل الناس جميعا يتوجهون إلى نفس الموضوعات، فيظهر بينهم التنافس والتدافع ويتحول الأمر إلى النزاع والصراع ثم إلى حربٍ مفتوحة تأتي على الأخضر واليابس، ولا يتوقف العنف بين بني الإنسان إلى الأبد، نظرا لعدم انقضاء الرغبة المرتبطة بالموضوع المتنازع حوله من جهة، ونظرا لظهور سيكولوجية الانتقام الجماعي المؤجل من الخصم من جهة ثانية. على خلاف الحيوانات التي يخمد الصراع بين أفرادها بمجرد الغلبة وخضوع الأضعف للأقوى.
يقول جيرار: "إن العنف الانساني عنف مُعدٍ: فهو ينتشر في الجماعة من فرد إلى فرد،...ويمكن أن يؤدي إلى قيام مذابح جماعية"، إلا أن هناك افتراض يفيد أن الإنسان انتبه إلى وسيلة لتدويب الصراع والعنف والانتقام، تسمى: الفدية أو الفداء أو الأضحية،من أجل درء وإيقاف دورة العنف بين الطوائف المتقاتلة...ومن تَمَّ جاءت تسمية: كبش فداء.
المحور الثالث: العنف والمشروعية
1- العنف المشروع: ماكس فيبر
تقوم كل دولة في التاريخ على ممارسة السلطة، وتقوم كل سلطة في التاريخ على ممارسة العنف، ولا يُتصور وجود دولة خالية من العنف، إذ لا معنى لغياب العنف إلا ظهور الفوضى واللانظام، ومادامت السياسة تعني تنظيم المجتمع وتوجيهه فلا تنظيم ولا توجيه إلا باستعمال الضغط والإكراه والرذع، وبالتالي فالواقع الحقيقي كما يقول تروتسكي هو أن "كل دولة هي جهاز مؤسس على العنف" أو حسب تعبير فيبر "العنف هو الأداة الخصوصية لدى الدولة، والعلاقة في أيامنا هذه بين الدولة والعنف هي علاقة حميمية. فقد كان العنف الجسدي هو الوسيلة العادية للسلطة".
إلا أن ماكس فيبر هنا لا يُجيز العنف إلا للدولة التي تُعَد في نظره المؤسسة الوحيدة التي يحق لها احتكار العنف، و"لايُسمح لأية جماعة بشرية أو لأيٍّ من الأفراد بحق استعمال العنف إلا عندما تسمح به الدولة".
وإن كان السؤال العالق هنا هو: إذا كان العنف من حق الدولة فهل يتعلق هذا الحق بأي نوع من الدولة حتى وإن كانت دولة الاستبداد والظلم؟
2- العنف غير مشروع: غاندي
يرفض غاندي العنف -كفعل ينم عن نية عنيفة في إلحاق الألم بالخصم- رفضا مطلقا سواء صدر من طرف الفرد أو من طرف الدولة، ويعتبره رذيلة وهمجية أتعبت العالم ولم تُفِد الإنسانية في شيء، ويجب تعويضه باللاعنف. إلا أن هذا الأخير لا يعني خيار الاستسلام والانبطاح لقوى الفساد أوالركون والتبعية للإستبداد أو الاستقالة والقعود، ولا "تخليا عن كل صراع حقيقي ضد الشر، بل هو على العكس" مواجهة ومعارضة روحية، ذهنية وأخلاقية عميقة تفُلُّ سيف العدو من حيث لا قِبَل له بمفعولها"، وهذا يتطلب مقاومةً تجمع بين تربية الروح وتدريب الجسد، وإلا فستكون مقاومة ضعيفة ولا يمكن أن تؤدي إلى القصد منها. يقول المهاتما (أي الروح العظيم) مستهجنا العنف: "إن اللاعنف هو القانون الذي يحكم النوع الانساني مثلما أن العنف هو القانون الذي يحكم النوع الحيواني". وقد كان يردد عبارة: "الساتياجراها" أي الإصرار على الحق دون عنف.
ولعل هذا ما يؤكده إريك فايل باعتباره أن الفلسفة تناهض العنف بجميع أنواعه وبمختلف مبرراته وتدعو مقابل ذلك إلى استعمال العقل في الإقناع الحجاجي والبرهاني.
----------------
بريد التواصل elfarrak@gmail.com