كان ذلك أول احتكاك للشاب، روجيه غارودي، المقاوم للنازية، بالمسلمين سكان المستعمرات المسلمة، التي طالما وصفها الاستعمار بالهمجية، تعجّب الفتى من تضامن تلك المجموعة الجزائرية الصامدة مع الأسرى، أمام تهديدات الألمان بالقتل؛ بسبب رفضهم قتل عُزّل من السلاح، وعدم اقتناعهم بقتله ورفاقه؛ لأنّهم لم يسبّبوا أيّ ضرر لهم.
وُلد روجيه لأب ملحد وأم كاثوليكية واختار لنفسه المذهب البروتستانتي في سنّ الرابعة عشرة
عاد روجيه إلى فرنسا، بعد أن أمضى ما يقرب من ثلاثة أعوام في معسكرات الاعتقال في الجلفة بالجزائر، وفي قلبه تلك التجربة التي أنقذت حياته، وعقله قد توقف بالتأمل طويلاً أمام تلك الحادثة؛ "كانت الصدمة الأولى التي زلزلت حياتي، ويومها عرفت أنّ الإسلام هو الذي أنقذ حياتي.. وأنا عمري 28 عاماً وظل بداخلي حتى اعتنقت الإسلام العام 1982".
نضال بالفلسفة والسياسة
سرعان ما انخرط غارودي في العمل السياسي في فرنسا بعد عودته، لينضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي،
الذي وصل أوج شعبيته بعد الحرب العالمية الثانية، وانخراط كوادره في تحرير
فرنسا من الاحتلال النازي، وقد تكلّل نشاطه السياسي بانتخابه نائباً في
البرلمان، العام 1945، ثم عضواً في مجلس الشيوخ، ورئيساً للجنة التعليم
القومي، ونائباً لرئيس المجلس.
حصل على درجة الدكتوراه العام 1953 من
جامعة السوربون، عن موضوع النظرية المادية في المعرفة، ثم على درجة
الدكتوراه الثانية حول الحرية العام 1954، من جامعة موسكو، مما يظهر مدى
تعمقه في دراسة الأيديولوجيا الشيوعية.
عمل في كلية الآداب بجامعة
كليرمونت فيراند، ما بين عامي 1962-1965، إلا أنّه ترك الجامعة لخلاف مع
المفكر الفرنسي الراحل ميشيل فوكو، ثم رحل إلى جامعة بواتييه، ليحاضر فيها
ما بين عامي 1969-1972.
أربع محطات فكرية
وُلد
روجيه لأب ملحد وأم كاثوليكية، واختار لنفسه المذهب البروتستانتي في سنّ
الرابعة عشرة؛ مما يعني أنّ سؤال الدين طغى عليه منذ البداية، بفعل اختلاف
عقيدة الوالدين، وانتهى هذا القلق الفكري بالثورة على الإلحاد
والكاثوليكية، والانحياز للمذهب البروتستانتي، ويبدو أنّ غارودي اختار
التجربة سبيلاً، لانتقاء العقيدة التي سيظلّ يبحث عنها، حتى يصل إليها
ويؤمن بها حتى رحيله.
مثل اندلاع أحداث 1968 في أوروبا لحظة انبثاق وعيه بثنائية فلسفة الذات وفلسفة الفعل
كانت
تلك المرحلة الأولى من حياته الفكرية تجاه الدين، ثم اعتنق الماركسية في
المرحلة الثانية والأطول التي صنعت شهرته، لم ينقطع خلالها عقل المفكر
الفرنسي عن التأمل والشغب، وظلّ متمسكاً بالديالكتيك، عصب الفلسفة
الماركسية، ودون أن يفقد عقله أمام الوصاية القادمة من الاتحاد السوفييتي،
التي حوّلت الأحزاب الشيوعية حول
العالم إلى ظلال خافتة بلا هوية، وهو ما لم يَرُق له، فتمّ طرده من الحزب
الشيوعي الفرنسي، العام 1971، لمعارضته الحادة للغزو السوفييتي
لتشيكوسلوفاكيا، العام 1968؛ حيث أكد أنّه لا يمكن اعتبار الاتحاد
السوفييتي دولة اشتراكية، على حدّ قوله، كما في كتابه الشهير "ماركسية
القرن العشرين" الذي استكمله بعد هذه المرحلة.
في المرحلة الثالثة؛ عاد
إلى المسيحية ولكن في ثوبها الكاثوليكي، بعد صداقة طويلة وعميقة مع كبار
رجال الكنيسة الكاثوليك؛ حيث ساهم معهم في مؤتمرات الحوار المسيحي الشيوعي،
في ستينيات القرن الماضي؛ محاولاً الخروج من الفوضى التي يتصور فيها كلّ
فرد ودولة أنّه مركز كلّ شيء، ووجد الحلّ في الإيمان بقيم مطلقة، تتجاوز
منطقنا البسيط، مؤكداً على قيمة الحوار بين الأديان والأيديولوجيات.
وفي
المرحلة الرابعة والأخيرة، في سبعينيات القرن الماضي، ظهر اهتمامه
بالإسلام، خاصة بعد صعوده على مسرح السياسة الدولية، ومعاناة الاتحاد
السوفيتي في أفغانستان المسلمة، ليعلن في الثاني من تموز (يوليو) العام
1982، إسلامه في المركز الإسلامي في جنيف.
يظنّ كثيرون من قرّاء غارودي أنّ كلّ مرحلة لاحقة نسخت المرحلة السابقة في حياته العقلية المثيرة، ولكنّه -على العكس- تمسك بكلّ مرحلة، واستطاع تكوين سبيكة عقلية، لا يمكن فصل الماركسية فيها عن المسيحية والإسلام، وعزّز ذلك شخصية مستقلة مهمومة بمشكلات الواقع وتحدياته، رافضاً الإقصاء والإرهاب اللذين يمارسهما كلّ من يريد السلطة، بغضّ النظر عن الضحايا الذين يسقطون في سبيل تلك المشروعات الدموية.
يقول غارودي، في كتابه "كيف صنعنا القرن العشرين؟": "في مسيرتي نحو الإسلام، حاملاً في يد الإنجيل وفي اليد الأخرى ماركس، حاولت أن أعيد في الإسلام –كما فعلت في الماركسية- إحياء الأبعاد الداخلية والسموّ والحبّ".
نقد الغرب فلسفياً
يحتلّ نقد غارودي للحضارة الغربية مكانة كبيرة في اهتماماته الفكرية، وفي كلّ مرحلة عاشها كان يكتشف أبعاداً جديدة من مشكلات تلك الحضارة، التي تعدّ الفلسفة اليونانية والتقاليد اليهودية المسيحية، رافديها الأساسيين.
في كلّ مرحلة عاشها كان يكتشف أبعاداً جديدة من مشكلات الحضارة الغربية ومعضلاتها مع الآخر
مثل اندلاع أحداث 1968 في أوروبا لحظة انبثاق وعيه، بثنائية فلسفة الذات وفلسفة الفعل؛ مما دفعه للبحث بشغف في تاريخ هذين المفهومين في الثقافة الغربية؛ حيث يرى غارودي أنّ الغرب المتمركز حول نفسه، مرّ بعدد من عمليات الانفصال والتمزق والتحيز لصالح فلسفة الذات، وكان أول انفصال قام به سقراط وتلامذته بناء على فلسفة بارمينيدس، الذي استبعد من الوجود كلّ ما لا نعقله بالمنطق، وبالتالي يُحدّد بالذات، وجعل أفلاطون البشر طبقات في جمهوريته، وقد قام المجتمع اليوناني القديم على الفصل والانحياز الواضح للتأمل الذاتي، على حساب الفعل اليدوي واحتقاره، واستمرت تلك المرحلة إلى عصر النهضة.
في المصدر الثاني المتمثل بالفكر اليهودي المسيحي، رأى غارودي أن القديس بولس ومريديه استعادوا الفكرة الملعونة عن شعب الله المختار؛ حيث استبدلوا مفهوم "الجوييم"، أي غير اليهود، بمفهوم الكفار والوثنيين، الذين تجب دعوتهم إلى المسيحية، بمعنى استعمارهم روحيّاً قبل استعمارهم اجتماعيّاً.
بعد بيانه ضد الاجتياح الإسرائيلي للبنان لم تنشر له أي صحيفة فرنسية أي موضوع أو إشارة إيجابية
عندما تأمّل غارودي الحداثة الغربية، التي نجحت في فرض نفسها بالقوة، ودفعت العالم لأتون حربين عالميتين، من أجل الصراعات على الثروة العالمية، استخلص مفهوم الحداثة في عدد من المبادئ التي اقتبسها من كتابات الفلاسفة الغربيين، مثل أنّ "الإنسان سيد الطبيعة يسخرها كيفما يشاء من أجل مصلحته الخاصة"، و"الإنسان عدو لأخيه الإنسان"، و"أيها الإنسان من خلال عقلك القوي، كن إلهاً"، فالفلسفات الغربية، كما يقول، قدّمت طروحات فلسفية تتمركز حول الذات الغربية، وتطمح إلى احتلالها مكانة أكبر من إمكانياتها، وتدفعها إلى الاغتراب، ويظل الهدف هو تحقيق مفهوم الرشادة، بتحقيق أكبر عائد بأقل تكلفة اقتصادية، أما سقوط ملايين الشهداء في ساحات المعارك، فهو جزء يسير من تلك التكلفة المنخفضة القيمة.
أسلمة غارودي أم إسلامه؟
أربك تحوّل روجيه غارودي إلى الإسلام، في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، الكثيرين، ومثّل صدمة عميقة لرفاق دربه والمتحمسين لأفكاره السابقة ومشروعه الفكري، في الوقت الذي ابتهج فيه المسلمون بتحوّل شخصية بوَزن وثقل روجيه غارودي للإسلام، وطمع بعض المتشددين في المزيد، فأذاعوا نبأ تغيير اسم روجيه غارودي إلى رجاء غارودي، وهو الأمر الذي نفاه الفيلسوف الفرنسي أكثر من مرة، واستنكره، وعبّر عن رفضه لتلك الفكرة قائلاً لأحد الصحفيين العرب: إنّ "الإسلام أكبر من أن يحتويه قمقم العروبة فقط"؛ حيث أراد الإسلاميون توظيف هذا التحول في معاركهم السياسية والدينية ضدّ الغرب.
عاصر غارودي قرناً يعجّ بالأحداث الصاخبة، والأسئلة، والأزمات الطاحنة، والآمال الوردية، لم يفقد فيها أبداً الرغبة في مقاومة ما يحدث في هذا العالم من فظائع، وقد نال المفكر الراحل جائزة الملك فيصل العالمية، عام 1985، عن خدمة الإسلام، وذلك عن كتابيه: "وعود الإسلام" و"الإسلام يسكن مستقبلنا"، واستمرّ المفكر الراحل يكتب عن الإسلام وثرائه، ولم يتوقف عن مهاجمة الأصوليات الدينية والأيديولوجية والتكنوقراطية حتى وفاته.
معركة أخيرة قبل الرحيل
لأن المبادئ لا تتجزأ كما آمن طوال حياته، أصدر غارودي بعد مجازر صبرا وشاتيلا بياناً مدوياً أعلن فيه رفضه الحاسم للاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، وذلك على صفحة كاملة بصحيفة "اللوموند" الفرنسية اشتراها لحسابه الخاص بتاريخ 17 حزيران (يونيو) 1982، موجهاً نقداً لاذعاً لإسرائيل والصهيونية لإقدامها على "تغذية غرور الغطرسة والهوس المزمن الذي تزكيه أمريكا، وكانت هذه المقالة بمثابة الطلقة الأولى التي خرجت من حنجرتي لتعلن بداية حرب ضروس ضدي".
بعد هذا الموقف تحوّل ذلك الضيف الدائم على المحطات الإذاعية والتلفزيونية وأعمدة الصحف، إلى شخصية مقاطَعة من الإعلام الفرنسي، فلم تنشر له أي صحيفة بعدها أي موضوع أو إشارة إيجابية، حتى أنّ كتابه "الإرهاب الغربي" صدر العام 2009 عن دار الأمة الجزائرية بعد أن رفضت كل دور النشر الفرنسية طباعته.
بعد اعتناقه الإسلام سعى الإسلاميون لتوظيف هذا التحول في معاركهم السياسية والدينية ضدّ الغرب
وكانت الأمور قد تصاعدت ضده في العام 1998عندما أدانته محكمة فرنسية بتهمة التشكيك في الهولوكوست في كتابه "الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل"، وصدر بحقه حكم بالسجن لمدة سنة مع إيقاف التنفيذ.
وإثر ذلك وصمته الصحافة الفرنسية والغربية بمعاداة السامية، علماً أنّه لم ينكر جرائم النازية ضد اليهود، بل المبالغة في حجم المأساة والأرقام المعلنة في أعداد الضحايا، على حساب جرائم أكبر للنازية استهدفت شعوباً وقوميات أخرى؛ كان يقول ببساطة إنّ أحداث المحرقة ضُخمت وأعطيت أبعاداً أسطورية مخالفة للواقع، وتمت بالكامل على المسرح الأوروبي لكنها وُظّفت لحجب وتبرير ما ارتكبته إسرائيل بعدها ضد الفلسطينيين.
رحل روجيه غارودي، في حزيران (يونيو) 2012، عن عمر ناهز التاسعة والتسعين، وقد تداول بعض من حضروا العزاء؛ أنّ أسرته أحرقت جثته رغم مخالفة ذلك للتعاليم الإسلامية، بحجة أنّه ترك المسيحية، ونقلوا عدم رغبتهم دفنه، بحسب الشريعة الإسلامية، وأنّهم تجاهلوا الصلاة على الراحل وفق الشريعة التي اعتنقها، وسط حضور متواضع لمئات كان أغلبهم من المسلمين، كما رفض عميد مسجد باريس إقامة صلاة الغائب على روح الراحل؛ بحجة عدم وجود وثيقة تؤكد إسلامه، وأنّ المسألة تحتاج إلى قرار سياسي!
إنّ روح غارودي، القوية الصلبة، في مراحله المختلفة التي تشترك في البحث عن الحق والحقيقة تكاد تصفها كلمات المفكر المصري عبد الرحمن بدوي، عندما قال: "فالروح المتطرفة هي من شيم الممتازين الذين يبدعون ويخلقون التاريخ.. ومن عمائق الإنكار والتجديف، تنطلق الموجة التي تنشر الإيمان في الدنيا بأسرها".