تقديم
يعتبر
الانسان كائنا عارفاً يسعى إلى فهم وتفسير العالم الذي يعيش فيه، بغية إدراك
القوانين التي تحكمه. من هذا المنطلق كان وجوده وجودا معرفيا منتجا للأفكار
والنظريات، وينبني وجوده هذا، على ممارسة عقلية تربطه بذاته وبالواقع المحيط به،
هذا الواقع الذي يسعى إلى تنظيم معرفته به لإدراك حقيقته.
تفترض المعرفة الإنسانية وخاصة العلمية منها، مقاربة شاملة ومنفتحة، نظرا لما تشهده من تداخل بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، بين العقلي والواقعي، بين الحقيقي واللاحقيقي، لذا تبدو مفاهيم النظرية والتجربة والحقيقة كمفاهيم مترابطة يؤدي كل واحد منها الى الآخر.
1-النظرية
والتجربة:
يطرح هذا المفهوم إشكالية فلسفية مهمة وشائكة سايرت مسيرة
الفلسفة التاريخية، وهي علاقة النظرية بالتجربة، أو علاقة الفكر بالواقع، أو علاقة
الوعي بالموضوع، أو علاقة الذات بالعالم الخارجي، أو علاقة العقلانية التأملية
بالعقلانية التجريبية.
إن نقطة انطلاق أي علم تكمن في إرادة الانسان توظيف عقله
وقدراته من أجل فهم الطبيعة ومراقبتها. ويترتب عن هذا القصد طرح بعض الأسئلة
الآتية: كيف تتمكن الذات العارفة من الحصول على الموضوع المعروف؟ وكيف يتحول
الواقع المادي، وهو ذو بنية ونظام وتماسك، إلى أن يصبح موضوع بحث ودراسة؟ وهل ما
يحصل عليه الدارس من مفاهيم وقوانين ونظريات هو انعكاس حقيقي لهذا الواقع، أم انه
نتيجة البنيات المنطقية والرياضية التي يمتلكها العقل؟
إنها الأسئلة التي فرّعت الفلسفة إلى اتجاهين فلسفيين
متعارضين: الفلسفة المثالية التي جعلت من العقل محور كل معرفة وإدراك..، والفلسفة
المادية التي أرجعت جميع المعارف إلى الواقع والتجربة. إنهما اتجاهان متقابلان،
يستحيل الجمع بينهما، لأنهما يعبران – حق تعبير – عن الفلسفة الواحدية،
فالعقلانيون لا ينظرون الى العلم ونظرياته إلا اعتمادا على العقل، والتجريبيون
جعلوا جذور العلم وأصله تجربة.
إذا كان هذا هو سأن المذهب الواحدي، فإن المنطق الجدلي
نظر إلى المسألة بمنظار آخر فهو لا ينظر إلى الأشياء بنفس الهوية: ف -أ-
ليست هي -أ- بل تحمل أوصالها الحركة والصيرورة والتناقض والتجدد والتغير.
فبداخل كل شيء توجد صيرورة تدفع إلى إنجاز هوية جديدة، فلا وجود لشيء في
تمامه، ولا وجود لشيء في الأرض ولا في السماء لا يضم بداخله الوجود والعدم، فساعة
الولادة هي ساعة الموت.
وبناء عليه، يمكن القول: إن هناك حواراً مستمراً بين
النظرية والتجربة، فلا وجود لنظرية عقلية خالصة، كما لا وجود لتجربة علمية مستقلة.
فالنظرية والتجربة تشكلان معاً النظرية العلمية التجريبية.
المحور الأول: التجربة والتجريب
اشكال المحور: ما دلالة الفرق بين التجربة والتجريب؟ وما الوضع الذي
يأخذه التجريب في بناء النظرية العلمية؟
معالجة الاشكال:
ترتبط التجربة بالحواس وبما هو مباشر وتأخذ طابعا عاما
وانطباعا حسيا بسيطا، فالتجربة ملاحظة عامية تنتج عن الاحتكاك المباشر مع الوقائع
وتفقد الدقة والصرامة، كما أنها عبارة عن خبرة مكتسبة من الحياة لا تنتج معارف
علمية بقدر ما تنتج بادئ الرأي والتمثلات المشتركة التي كانت عائقا أمام تقدم
العلم حسب "ألكسندر كويري". أما التجريب فهو المساءلة المنظمة والمنهجية
للطبيعة من خلال لغة علمية (رياضية).
إن التجريب العلمي هو التجربة المعقلنة التي من خلالها يخضع
المجرب الظاهرة المدروسة الى ترتيبات نظرية محددة قبليا، وبعبارة أدق، كل تجربة
علمية تجرى في إطار (بروتوكول التجريب) الذي يمثل الإطار التقني والعلمي لكل
تجربة. إذن، فما هي خطوات ومبادئ المنهج التجريبي؟
يجيب "كلود برنار" بالقول:
تتطلب إحاطة العالم بمبادئ المنهج التجريبي الالتزام بشرطين أساسيين: يتمثل الأول
في توفره على فكرة يعمل على فحصها انطلاقا من وقائع صحيحة ومنظمة، أما الثاني
فيتمثل في ضرورة استخدام العالم كل الأدوات التي من شأنها أن تمكنه من ملاحظة
الظاهرة المدروسة ملاحظة دقيقة وشاملة. فعلى العالم الملاحظ للظواهر أن ينصت إلى
الطبيعة وينقل بدقة كل ما هو موجود فيها، ويسجل ما تمليه عليه. من هنا تأتي
الملاحظة في بداية المنهج التجريبي، ثم تتلوها الفكرة العقلية التي تسعى إلى تفسير
الظاهرة، وبعد ذلك يتم التأكد من الفرضية المفسرة عن طريق التجربة العلمية التي
تعتبر معيارا للتحقق من صحة الفرضية أو عدم صحتها. فالتجربة في المنهج الكلاسيكي
تعتبر منطلق بناء النظرية العلمية، وهي المعيار الوحيد لصلاحيتها.
لا أحد يشك في خصوبة وفعالية المنهج التجريبي والنتائج
المهمة التي حققها سواء في مجال الفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا أو العلوم
الأخرى التي أخذت به، لكن التقدم الذي حققه العلم بصفة عامة، والفيزياء بصفة خاصة،
عندما وجهت دراستها إلى الجزئيات أو ما يسمى ب(الميكروسكوبي)، فرض على العلماء ألا
يلتزموا بخطوات المنهج التجريبي وترتيبها، وأن يعملوا على تكييفه مع ما يقتضيه
الواقع العلمي الجديد، حيث أصبح العالم أو الدارس يتدخل في الظاهرة المدروسة
بالإضافة أو الحذف أو التعديل، والتصويب أو العزل أو تسليط تأثيرات يقترحها، حتى أصبح
الدارسون يتحدثون عن منهج تجريبي جديد؛ ومعنى ذلك، أن العالم لا يبقى حبيس خطوات
المنهج التجريبي في صورته الكلاسيكية، بل إنه يبدع كيانات خيالية، يستطيع التأكد
منها في ذهنه، وليس دائما في الواقع.
إن للتجريب إذن، وجهين: وجه كلاسيكي وآخر معاصر مرتبط
بالعقلانية العلمية المعاصرة، وهذا الأخير أكثر انفتاحاً واتساعاً من الأول،
والجدول الآتي بين الفوارق بينهما:
|
الواقع |
الإجراءات
المنهجية |
المفاهيم |
الأحكام |
العقلانية |
المنهج
التجريبي الكلاسيكي |
-الطبيعة يتم نقل الظاهرة العلمية الى المختبر لدراستها. -مجال ماكروسكوبي |
المراحل
الأربعة |
فصل الزمان
عن المكان، والدارس عن المدروس |
يقين مطلق |
ثابتة مطلقة
لها محتوى ولها مضمون. |
المنهج
التجريبي الجديد |
-صنع الظاهرة
داخل المختبر، فتتم دراسة العلاقات وليس الحادث العلمي فقط. -واقع
اصطناعي مبني، يتدخل فيه العالم بأجهزته. -مجال
ميكروسكوبي |
-فرضي-استنتاجي، يضع العالم فرضياته ثم يستنتج استنتاجاته ليتحقق من صحتها بالتجربة وفي
الأخير يلجأ الى "التجربة الذهنية الخيالية" |
وحدة بين المفاهيم: (زمكان)، (كتلة-طاقة)، (دارس-مدروس). |
يقين نسبي
قائم على النقد والتقدم |
بنية متغيرة،
ومتطورة، وتصحح أخطاءها باستمرار. إنها نشاط وفعالية. |
تركيب:
تنفتح إشكالية
هذا المحور على أطروحتين الأولى تولي الأهمية للملاحظة وهو ما تتبناه النزعة
التجريبية، والثانية تولي الأهمية للفرضية العلمية وهي النزعة العقلانية المعاصرة،
وبناء عليه، فإن المعرفة العلمية تقتضي وجود كل من العقل والتجربة، فبدونهما لا
مجال للحديث عن معرفة علمية.
المحور الثاني: العقلانية العلمية
اشكال المحور: ماهي أسس العقلانية العلمية؟ وما هي خصائصها وحدودها؟
معالجة الاشكال:
أشار كانط في كتابه " نقد العقل الخاص"
الى ضرورة ربط العقل بالتجربة على اعتبار أن المعرفة تتضمن مكونين أساسيين: معطيات
التجربة من جهة، وأحكام العقل من جهة أخرى، إذ لا وجود لتجربة مستقلة عن العقل،
كما أنه لا وجود لعقل معزول.
ورغم هذا النقد
الذي وجهه كانط الى التيار العقلاني والتجريبي إلا أنه ظل حبيس عقلانية كلاسيكية
تؤمن بعقل يملك صفات أولية ومبادئ ومقولات قبلية. لذا يشير "بلانشي"
إلى أن العقل في العلم المعاصر لم يعد منغلقا ومرتبطاً ببنية تقليدية قائمة على
مجموعة من المبادئ الفطرية، أو القبلية، كما كان سائدا، بل أصبح عقلا تطورياً
يتغير بتغير عالم التجربة ذاته؛ بحيث لم تعد مهمة العقل منحصرة في تنظيم التجربة
وترييضها، بل إنه يعمل على تنظيم ذاته أيضاً.
وفي إطار العقلانية المعاصرة لم يعد ينظر إلى العقل على
أنه مكتف بذاته ومعزولا عن الواقع، كما لم يعد ينظر الى التجربة على أنها تتحكم في
البناء النظري للعلم، كما كانت تعتقد النزعة الاختبارية، بل إن العقلانية العلمية
مبدعة لمفاهيمها بواسطة العقل الرياضي. صحيح أن التجربة تساعد العالم على اختيار
مفاهيمه ومبادئه، ولكن يبقى العقل الرياضي هو منبع النظرية كما يؤكد اينشتاين.
من هذا المنطلق، كانت المعرفة العلمية قائمة على أساس
العلاقة الجدلية بين العقل والتجربة، لأنه لا وجود لنظرية علمية عقلية خاصة، كما
لا وجود لتجربة علمية مستقلة عن العقل، بل هناك حوار جدلي بين النظرية والتجربة في
العلم المعاصر، الذي يعطي معاني جديدة لمفاهيم: العقل، التجربة، الواقع، الذات،
الموضوع، اليقين، الكذب، الخطأ.
إن التفكير العلمي المعاصر لا يقبل التسليم بوجود مبادئ
عقلية سابقة على التجربة، ويعتبرها مجرد قواعد للنشاط الذهني تعبر عن قدرة العقل
على انتاج عملياته الخاصة، وعلى انشاء منظومات من القواعد الإجرائية، وعلى تطبيقها
واختبارها. ويؤكد "غاستون باشلار" في هذا السياق على
ضرورة الأخذ بموقف يؤمن بحوار العقل والتجربة، لتأسيس الدليل العلمي، أو ما يسميه
بالعقلانية المطبقة.
وبناء عليه، فإن العقل لا ينتج المعرفة فحسب، بل يتعلم
منه أيضاً كما أن العقل العلمي على استعداد دائم لإعادة النظر في مبادئه وأفكاره
ومناهجه، من هنا كان عقلا متطوراً منفتحاً، نقدياً ونسبياً، تتغير بنيته بتطور
المعرفة العلمية ذاتها.
المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية
اشكال المحور: ما هي معايير علمية النظريات العلمية؟ وما هي مقاييس صلاحيتها؟
معالجة الاشكال:
ما هي مقاييس صلاحية النظريات العلمية؟ |
||
الأسماء |
المعايير |
القيمة العلمية والفلسفية |
فرنسيس بيكون وكلود
برنار. ق: 18- 19. |
- التحقق بواسطة التجربة (معيار الاختبار) - إن أية
قضية لا يكون لها أي معنى إلا إذا تم التحقق منها تجريبياً. - يقول
مالينوفسكي: «عندما تخطئ النظرية يتعين البحث في مكمن الخطأ فيها، ومن ثم لا بد
أن تكون التجربة والمبادئ موضوعاً لتهيئ دائم مستمر. إن التعريف الأولي للعلم
يقتضي وجود قوانين عامة». -تجربة برنار حول الأرانب: لقد جرب برنار على الأرانب، ثم أعاد التجربة
على ارانب أخرى، ثم نقل التجارب إلى حيوانات عاشبة.. |
- عن طريق المنهاج التجريبي والالتزام بإجراءاته يمكن للعلم أن يتقدم
بواسطة تعميماته الاستقرائية التي تبدأ من أمثلة جزئية وتنتهي إلى ما هو عام. - فيحدث
التقدم العلمي بواسطة التراكم المعرفي الذي يتحقق بواسطة تراكم الملاحظات
والتجارب. - إن
التقدم العلمي يتحقق بواسطة التراكمات العلمية. -"إن التجربة إذن، هي منبع النظرية وأساس بنائها وبناء العقلانية
العلمية بمختلف فروعها ومجالاتها". |
كارل بوبر ( 1902–
1994) |
- القابلية للتكذيب أو القابلية للتزييف. - يقول:
«لا أعتقد أن النظريات العلمية ليست سوى مجموعة من الملاحظات وإنما هي اختراعات
وتخمينات تواجه محك الاختبار لكي يتم استبعادها إذا تعارضت مع الملاحظة». - يقول:
«كل اختبار لنظرية إنما هو محك لتكذيبها». - ويوضح:
«إن المعيار الذي يجعل النظرية تتصف بأنها علمية هو قابليتها للتكذيب أو التفنيد
أو الاختبار وليس قابليتها للإثبات». - يقول:
«إن معيار القابلية للتكذيب أو التفنيد يمكن أن تطلق عليه القابلية للاختبار ذلك
أن اختبار نظرية ما، تماماً كاختبار جزء من آلة ميكانيكية، يعني محاولة تبيين
العيب فيها وبالتالي فإن النظرية التي تعرف مقدماً أنه لا يمكن تبيان العيب فيها
أو تفنيدها هي نظرية غير قابلة للاختبار». |
- التقدم العلمي يتحقق عن طريق إحلال نظرية قابلة للتفنيد محل نظرية كذبت
بالفعل في عنصر من عناصرها، أو كذبتها وقائع علمية جديدة، أو بها ثغرة من
الثغرات. - يمكن للعلم
أن يتقدم بدون استدلال استقرائي. -يتحقق
التقدم عن طريق إبعاد الأخطاء بواسطة النقد الكاشف عن مكمن الضعف. - النظرية
الجديدة تقدم اكتشافا أو خطوة نحو الاكتشاف، وهي تتعارض مع سابقتها وتناقض
هندستها. |
وليام جيمس (1842-1910) |
-النظريات العلمية عنده عبارة عن أداة للبحث لا إجابة حاسمة عن المشكلة
بحيث يمتنع بعدها كل بحث، فليست النظريات الفلسفية والعلمية نهائية ومطلقة، كما
أنها ليست منومات تمكننا وتسمح لنا بالهدوء والراحة والسكون والدعة وانقطاع
السؤال، بل حقيقتها لا تخرج عن كونها أدوات يستعان بها لتغير العالم وللمزيد من
فهمه وتفسيره وتغييره. |
- تتقدم العلوم بربطها بالواقع وبالحياة. - النظريات
مجرد ذرائع أو وسائل تعبر عن تكييف الفكرة مع الواقع. |
تركيب: يمكن القول: إن وجاهة النظريات وأصالتها العلمية قائمة
على اخضاع فروضها لاختبارات متكررة، قصد ابراز تماسكها المنطقي وجعلها تنفتح على فروض نظرية جديدة، مع
قابليتها للنقد والمساءلة أو إعادة البناء عبر مبدأ التكذيب أو التنفيذ وذلك بعد مصادقة التجربة عليها واتفاقها معها، فمن
الأفضل، أن تكون النظرية العلمية خاطئة وتقبل التصحيح عوض أن تبقى في يقين دائم، اذ لا علم بدون أخطاء،
"فالنظريات العلمية خاطئة وهي خاطئة لأنها علمية" كما يقول إدغار موران.
خلاصة عامة:
إن التأمل في
تاريخ اشتغال مفهومي النظرية والتجربة وحضورهما في العلم التجريبي،
رغم ما يسهم علاقاتهما من توتر وصراع، يكشف لنا بالملموس عن التفاعل والتداخل
الكبيرين بينهما في تأسيس وبناء النظرية العلمية التجريبية، اذ ساهم الحوار الجدلي
الدائر بينهما في المجال العلمي في إعادة صياغة مفاهيم فلسفية وعلمية أساسية مثل، العقل،
الواقع، الذات، الموضوع، التجربة، الخطأ، الكذب،
واليقين..، كما أكد أيضا على أن أي انغلاق للنظرية على ذاتها يمثل فناءها،
وأن أي انغلاق للعقل على ذاته هو بمثابة عزلته ونهايته، بحيث لا وجود لنظرية علمية
عقلية خالصة متعالية عن الواقع، ولا وجود لتجربة علمية مستقلة عن العقل.