"
ﺼﻭﺭ ﺍﻟﺨﺎﻟﻕ ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ ﺒﺄﻥ ﺼﻨﻊ ﺃﻭﻻﹰ ﻓﺭ ﻨﺎﹰ ﻭﺃﻭﻗﺩ ﺍﻟﻨﺎﺭ ﻓﻴﻪ، ﺜﻡ ﺼﻨﻊ ﻤﻥ ﻋﺠﻴﻨﺔ ﺜﻼﺜﺔ
ﺘﻤﺎﺜﻴل ﻋﻠﻰ ﺸﻜل ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ، ﻭﻭﻀﻌﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺭﻥ ﻭﺍﻨﺘﻅﺭ ﺸﻴﻬﺎ (ﺸﻭﺍﺀﻫﺎ ). ﻏﻴﺭ ﺃ ﻥ ﻟﻬﻔﺔ
ﺍﻟﺨﺎﻟﻕ ﺇﻟﻰ ﺭﺅﻴﺔ ﻨﺘﻴﺠﺔ ﻋﻤﻠﻪ ﺍﻟﺫﻱ ﻴﺘﻭﺝ ﺘﺠﺭﺒﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻠﻕ، ﻜﺎﻨﺕ ﻤﻥ ﺍﻟﺸﺩﺓ ﺒﺤﻴﺙ ﺃﺨﺭﺝ
ﺍﻟﺘﻤﺜﺎل ﺍﻷﻭل ﻤﺒﻜﺭﺍﹰ، ﻓﻜـﺎﻥ – ﻭﻟﻸﺴـﻑ- ﻏﻴﺭ ﻨﺎﻀﺞ ﺸﺎ ﺤﺒﺎﹰ ﺒﺎﻫﺕ ﺍﻟﻠﻭﻥ، ﻭﻤﻥ ﻨﺴﻠﻪ ﻜﺎﻥ
ﺍﻟﻌﺭﻕ ﺍﻷﺒﻴﺽ. ﺃﻤﺎ ﺍﻟﺘﻤﺜﺎل ﺍﻟﺜﺎﻨﻲ، ﻓﻜﺎﻥ ﻨﺎ ﻀﺠﺎﹰ ﺠﻴـﺩ ﺍﹰ ﻷ ﻥ ﻤﺩﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻭﺍﺀ ﻜﺎﻨﺕ
ﻤﻀﺒﻭﻁﺔ ﻭﻜﺎﻓﻴﺔ، ﻓﺄﻋﺠﺒﻪ ﺸﻜﻠﻪ ﺍﻷﺴﻤﺭ ﺍﻟﺠﻤﻴل، ﻭﻜﺎﻥ ﻫﺫﺍ ﺴـﻠﻑ ﺍﻟﻬﻨـﻭﺩ. ﻭﺍﻨﺼﺭﻑ ﺍﻟﺨﺎﻟﻕ
ﺇﻟﻰ ﺘﺄﻤل ﺼﻭﺭﺘﻪ، ﻨﺎﺴﻴﺎﹰ ﺃﻥ ﻴﺴﺤﺏ ﺍﻟﺘﻤﺜﺎل ﺍﻟﺜﺎﻟﺙ ﻤﻥ ﺍﻟﻔـﺭﻥ ﺤﺘـﻰ ﺍﺸـﺘﻡ ﺭﺍﺌﺤـﺔ
ﺍﻻﺤﺘﺭﺍﻕ. ﻓﺘﺢ ﺒﺎﺏ ﺍﻟﻔﺭﻥ ﻓﺠﺄﺓ، ﻓﻭﺠﺩ ﻫﺫﺍ ﺍﻟﺘﻤﺜﺎل ﻤﺘﻔﺤﻤﺎﹰ ﺃﺴﻭﺩ ﺍﻟﻠﻭﻥ .. ﻓﻜﺎﻥ ﺫﻟﻙ
ﻤﺩﻋﺎﺓ ﻟﻸﺴﻑ، ﻭﻟﻜﻥ ﻟﻡ ﻴﻌﺩ ﺒﺎﻹﻤﻜﺎﻥ ﺤﻴﻠﺔ، ﻭﻜﺎﻥ ﻫﺫﺍ ﺃﻭل ﺭﺠل ﺃﺴﻭﺩ ."
تمهيد:
لقد علمتني حياة الكتابة أن ارتاب من الكلمات، فأكثرها شفافية غالبا ما يكون أكثرها خيانة، وإحدى هذه الكلمات المضللة هي كلمة "هوية"، تحديدا فنحن جميعا نعتقد بأننا ندرك دلالتها و نستمر في الوثوق بها وان راحت تعني نقيضها بصورة خبيثة[1].هذا الكلام يشير إلى مشكلة أعيت الباحثين في علوم الإنسان وهي مسالة تحديد المصطلحات فكثيرة هي المفاهيم التي تنقلت من الصرامة التحديدية ومن بينها كلمتي "الهوية" و " الثقافة".هل هويتي هي التي تعني أنني لا أشبه أي شخص آخر؟هل هوية كل إنسان تقتصر على جملة عناصر الواردة في السجلات الرسمية؟ أم هي الانتماء إلى مذهب ديني ومجموعة أثنية او لغوية، وجنسية وأحيانا جنسيتين، وأسرة ومهنة ومؤسسة ومحيط اجتماعي معين...؟وفي المقابل ماهي "الثقافة"؟ هل هي كل ما يحدد هوية الإنسان؟ أم انها اسم جامع أصبح مفهوما يختزل كل أبعاد الإنسان؟وبكل بساطة حتى لا نسقط في فخ الخيانة نترك التحديد جانبا لأنه اكبر منا بكثير، فهذه مسألة فلسفية جوهرية منذ قول سقراط الشهير "اعرف نفك بنفسك" لذا أجد نفسي مضطرا للحديث من مشكلات الإنسان كهذه في بابها و خاصة الحقل الانتربولوجي منها، فأتساءل معكم كيف قاربت الانتربولوجيا الثقافية موضوع الهويات الثقافية؟تعرف الانتربولوجيا الثقافية بشكل عام بأنه العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع له ثقافة معينة، وعليه فهي ذلك العلم الذي يهتم بدراسة الثقافة الإنسانية، وهي تدرس الشعوب القديمة والمعاصرة، ومن تم فهي تهدف إلى فهم الظاهرة الثقافية وتحديد عناصرها، كما تهدف إلى دراسة الهويات الثقافية، والتغيير الثقافي، والمثاقفة والتماثل والاختلاف الثقافيان.فتطور البحث الانتربولوجي إذن رهن بوجود ظاهرة تعدد الهويات الثقافية، وبطرحنا لمصطلح التعدد نصبح أمام مسألة فلسفية معقدة وهي " الأنا" في مقابل " الغير" هذا الأخير المختلف عني تماما، ومن تم فكل محالة لفهم هذا الأخر تنطلق من اعتبارات قد تكون حتما واقعة " تهديد" أو محتملة، وهذا الأمر يستدعي "فهم الأسباب التي تدعو الكثير من اليوم إلى القتل باسم هويتهم الدينية و الاثنية القومية أو غيرها[2].تشكل ظاهرة تعدد الهويات الثقافة ظاهرة طبيعية، وهي واقع حاصل منذ وجد الإنسان على هذا الكوكب، وعلماء الانتربولوجيا يعتبرون بان هذه الظاهرة تؤدي بالجماعات البشرية إلى التمركز حول الذات"، و الاعتقاد بأنها أصل الحضارة ومصدر كل الايجابيات، وهذا الواقع يبرر الكثير من ردود الفعل مما يتولد عنه الشعور بالعداء والكراهية قد يشتد و قد يخفف في فترات، إلا أن لهيبه تمتصه السماء أحيانا ليعاود الاشتعال مرة أخرى.من هذا المنطلق تصبح النظرة إلى الغير المختلف تتسم بالدونية و الاحتقار، فعندما ظهرت الانتربولوجيا الفيزيائية، كان الأخر بالنسبة للإنسان الغربي حيوان، وأصبح بدائيا أو مختلفا في ظل الحركات الاستعمارية وازدهار الكشوفات العلمية ، و هذه النظرة لها ما يبررها ثقافيا، فالإنسان الغربي قد انفصل نهائيا عن العصر الوسط، وأعلن عن هويته الحديثة التي حدد هيدجر علاماتها في " العلم" و "التقنية الميكانيكية"[3]، فهو محتاج لمواد خام وتوسع اقتصادي لدعم انطلاقته نحو التقدم، لكن هل هو تبرير أخلاقي ومطلق؟ سؤال يحتاج إلى بحث عميق ووقت لكشف الأسرار الخفية وراء هذه المركزية.وينتقد" ستراوس" هذا التصور الاختزالي قائلا: اننا "الغربيون" نعتبر كل ثقافة تتطور في اتجاه مواز لثقافتنا" الغربية" ثقافة تجميعية، أي تلك التي يكون تطورها بالنسبة لنا ذا معنى، في حين تبدو لنا سائر الثقافات سكونية، ليس بالضرورة لأنها كذلك، ولكن لان حظ تطورها لا يعني شيئا بالنسبة لنا أي أنه غير قابل للقياس في حدود نظام المرجع الذي نستعمل: " ويذهب إلى كشف جوهر الاختلاف بالقول: في كل مرة نكون مضطرين لوصف ثقافة إنسانية بأنها جامدة أو سكونية، علينا إذن أن نتساءل عما إذا كان هذا الجمود الظاهر ليس ناتجا عن الجهل الذي نحن فيه بالنسبة لمنافعها الحقيقية بوعي أو لا وعي، وإذا لم تكن هذه الثقافة ذات المقاييس المختلفة عن مقاييسنا ضحية الوهم نفسه، فيما يتعلق بنا، وبكلام آخر، تبدو الواحد للأخر مجردين من أية منفعة، وذلك فقط لأننا لا نتشابه[4].
وفي الأخير يمكن القول، لقد تمكن النقد الأنثروبولوجي من القول بالنسبية الثقافية التي ترى أن الثقافات متعددة ومتنوعة بتنوع الأمم. وهي أيضاً متنوعة داخل الأمة الواحدة، لأن الثقافة في الأساس ليست ثابتة، وإنما هي في حالة تغير وتبدل وتطور. وإن المقارنة بين ثقافة مجتمع وآخر لا تعني على الإطلاق أن ثقافة مجتمع (أ) أفضل من ثقافة مجتمع (ب). وهذا معناه مناهضة المركزية الأوربية الثقافية، والابتعاد عن الغلو في استعمال معايير ثقافية مُعَدّة لإدانة ثقافة أخرى والقول بأنها “متخلفة” أو “بدائية” أو “راكدة” لأن الحتميات قد خضعت للمراجعة والتحليل والنقد من قبل العلم الأنثروبولوجي النقدي، بحيث جعلها تقف أمام نفسها من أجل أن تعرف نقاط ضعفها.يقول ك شتراوس:"وبالفعل نتحدث اختياريا عن "شعوب بلا تاريخ" (لنقول أحيانا أنها الأكثر سعادة) هده اصغو الموجزة تعني فقط أن تاريخها مجهول وسبقى كدلك ، ولكن دلك لا يعني أنه غير موجود ، فخلال عشرات وحتى مئات ألوف السنين ، ثمة كدلك أناس أحبوا وكرهوا وتأملوا واخترعوا وقاتلو ، وفي الحقيقة لا وجود للشعوب الطفلة ، كل الشعوب راشدة ، حتى تلك التي لم تكتب تاريخ طفولتها وفتوتها"[5].
سعيد السلماني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[3] -عبد الله
ابراهيم: المركزية الغربية: اشكالية التكون والتمركز حول الذات، المركز
الثقافي العربي، ط1، 1997، ص: 59.
[5] كلود ليفي شتراوس ، العرق
والتاريخ ، ترجمة ، د ، سليم حداد ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر
والتوزيع ، ط ، 2 ، 1988 ، ص ، 23