المحور الأول: التعريف بفلسفة الأخلاق
اشكال المحور:
سنحاول من خلال هذا المحور أن نقارب هذا الموضوع من خلال الاشكالات الآتية:
ما ذا تعني فلسفة الأخلاق في: اللغة والاصطلاح؟ ما الفرق بين الأخلاق النظرية والعملية؟ هل الأخلاق نسبية أم مطلقة؟ وهل لفلسفة الأخلاق من فائدة؟
تقديم:
يقوم بعض فلاسفة الأخلاق بتعريف الإنسان بأنه حيوان أخلاقي، فهو لديه الصفات الحيوانية لأنه يشارك الحيوانات في الرغبة لإشباع رغبات الجسد وحاجات الغريزة، فهو يسعى دومًا إلى البحث عن المأكل والمأوى والرفيق والعائلة لكي تستمر حياته ويحفظ نوعه، ويصدر عن سلوكه أمور طبيعية مثل الحب والكراهية، لكن الإنسان ينفرد عن الحيوان بخاصية التأمل العقلي، فهو يستطيع أن يتجرد من شهواته ويفكر ويتأمل، وهو لديه وعي ويستطيع أن يتخذ القرار وأن يضبط دوافعه وأن يسيطر على أهوائه وأن يُوجِّه قراراته، فهكذا يكون الإنسان هو الكائن الأخلاقي الوحيد الذي يحمل القيم الأخلاقية التي ترد للإنسان كرامته وتجعله ساميًا عن أية دوافع مادية وطبيعية، وفي الواقع فإن الإنسان لا يستطيع أن يترك واقعه الطبيعي المادي لأنه جزء منه لكنه يستطيع تسيير هذه الطبيعة لتحقيق قيمه السامية، وأيضًا فإن الإنسان حر، أما الحيوان فهو خاضع لنزواته ودوافعه ولا يستطيع الاختيار، فإذًا الإنسان هو الحيوان الأخلاقي القادر على تسيير حياته وسلوكه حسب المبادئ والقيم الأخلاقية فيسمو فوق الحيوان ليصبح الإنسان.
لُغويًا، فكلمة (الأخلاق) في العربية جمع (خُلُق)، وفي لسان العرب تحت مادة (خلق) يقول ابن منظور: "الخُلُق السجيَّة والطبع والمرؤَة والعادة والدِّين"، وفي القرآن:"إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ"(1)، وفي الحديث: "إنما بعثت لأتمم مكارم [وفي رواية "صالح"] الأخلاق"(2). أما في الإنجليزية فكلمة Morals فهي مشتقة من الكلمة اللاتينية Mores جمع Mos، وكلمة Ethics التي تعني الأخلاق أيضًا مشتقة من كلمة Ethos اليونانية (3).
واصطلاحا، فعلم الأخلاق لديه الكثير من التعريفات شأنه شأن العلوم الإنسانية، البعض يعرفه فيقول بأنه علم العادات (ونلاحظ أن هذا التعريف متأثر بالأصل اللغوي، والواقع أنه ليس دقيقًا فالعادات ليست إلا أشكالاً من السلوك الذي ترسخ من كثرة التكرار فهذا التعريف يلغي دور الاختيار)، والبعض يعرفه بأنه علم الخير والشر على أساس أن أهمية فلسفة الأخلاق تكمن في توضيح القيم وبيان الشر من الخير، وتعريف ثالث يقول أن علم الأخلاق هو المعايير التي تقنن سلوك الإنسان وتجعله يسمو روحيًا، أي أنه يقول بأن فلسفة الأخلاق هي مجموعة من اللوائح التي يجب أن يكون عليها الإنسان (نلاحظ أنه لا يتكلم عن الواقع بل عن المفروض).
علم الأخلاق نظري بحت، فحينما يبحث الفيلسوف لا ينتظر عملاً أو تطبيقًا، يبحث فقط من أجل البحث عن الحقيقة في السلوك الإنساني، لذا هناك فرق بين السلوك وعلم الأخلاق فالإنسان يستطيع أن يسلك سلوكًا حسنًا ويسمو روحيًا دون أن يعرف علم الأخلاق، وممن أكدوا هذا الرأي من الفلاسفة المحدثين آرثر شبنهاور (Arthur Schopenhauer) فقال أن الأخلاق مبحث نظري لا يتسم بأي طابع علمي أو تطبيقي مثله مثل المنطق أو ما بعد الطبيعية، فالأخلاق لا تأمرنا ولا تفرض علينا أي شيء، وأن حياة الإنسان تمضي دون أن تهتم بالأخلاق التي لا يمكن أن تعطينا ما ينبغي أن يكون (4)، لكن الكثير من الفلاسفة رفضوا هذا الرأي لأننا إذا قلنا أن الأخلاق تهتم بالكشف عن حقيقة المعايير في السلوك الإنساني فهذا لا يمنعنا من أن نتعرض لنقد المعايير الخُلُقية القائمة، وبالتالي لا بد أن تكون الأخلاق عملية، فالمسألة خلافية إذًا بين فريقين أحدهما يؤكد أن الأخلاق نظرية والآخر يؤكد أنها عملية، لكن هناك فريق ثالث يقول أن الأخلاق تجمع بين الجانبين النظري والعملي، وهذا دفع البعض إلى التمييز بين الأخلاق النظرية والعملية، فقالوا أن الأخلاق النظرية تدرس الضمير والخير والشر والقيم والبواعث والمُثُل العليا والإرادة والاختيار، والأخلاق العملية تدرس الواجبات المختلفة على الإنسان مثل واجبه نحو نفسه ونحو ربه ونحو عائلته وأصدقائه ووطنه.هل الأخلاق نسبية أم مطلقة؟
يقول البعض أن عصرنا هذا هو عصر المرونة والتحرر من القيم الأخلاقية ، ويقولون أننا لو ربطنا الظاهرة الأخلاقية بعجلة التغير الاجتماعي فحتمًا سنصف الأخلاق بالنسبية، فصار هناك فريق يقولون بالنسبية الأخلاقية ويعارضون القيم المطلقة على اعتبار أن الطبيعة البشرية واحدة في كل زمان ومكان، ومن ثم فيمكننا أن نُشرِّع للإنسانية في جملتها، ويستندون على بعض الدراسات الحديثة في علم الإتنوجرافيا (*) التي تثبت أن للشعوب البدائية أساليب مختلفة في التفكير والشعور والعمل والسلوك عن الشعوب المعاصرة بحيث نستطيع أن نقول أن لكل عصر ومجتمع مفهومه عن الإنسان، ويؤكد أنصار هذا المذهب أن الأحكام الأخلاقية في جوهرها أحكام وجدانية تستند إلى العواطف وتركز على الانفعالات، وهي تختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان ومن فرد إلى فرد، لكن هؤلاء وقعوا في خطأ عدم تمييز، فهم لم يميزوا بين المبدأ الخلقي وبين المظهر السلوكي، فمعروف أن القواعد السلوكية تختلف باختلاف الزمان والمكان ولكن المبدأ ذاته هو ثابت لا يتغير، على سبيل المثال فالمبارزة من أجل الشرف كانت مقبولة في عصور ماضية لكنها مستنكرة الآن (المظهر السلوكي) لكننا الآن ندافع ولا نستنكر الدفاع عن الشرف (المبدأ الخلقي)، فالقواعد السلوكية قد تتغير لكن المبادئ الخلقية ثابتة مطلقة.
أهمية الفلسفة الأخلاقية:
هل لفلسفة الأخلاق فائدة؟ .. قال الفيلسوف الإغريقي سقراط (Socrates) أن الفضيلة علم والرذيلة جهل، أي أن الإنسان حينما يعرف الفضيلة يكتسبها فيستحيل أن يعرف الإنسان الفضيلة ولا يمارسها، فسقراط هنا يدعو إلى المعرفة فلو أننا درسنا علم الأخلاق لأقبلنا على الفضائل وأدبرنا عن الرذائل، لكن على الجانب الآخر نجد بعض الفلاسفة يرفضون هذا القول، مثل هربرت سبنسر (Herbert Spencer) فهو يسخر من حماسة الفلاسفة الأخلاقيين في محاولاتهم لنشر القيم الأخلاقية، ويقول أننا كثيرًا ما رأينا علماء عارفون لكن فاسدون أخلاقيًا، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وكثيرًا ما نجد عامة جهّال مستقيمون أخلاقيًا، فالأخلاق لا تُعلَّم ولا تكون علمًا، لكن في الواقع فإن علم الأخلاق ليس بمقدوره أن يغير أفعال الناس ويقلبها كما يريد، لكنه مع ذلك لديه تأثير على بعض الناس وباستطاعته أن يهديهم إلى طريق الصواب، على سبيل المثال ففيلسوف الأخلاق مثل الطبيب الذي ينصح المريض بأن يمتنع أن يشربعن مشروب كذا، لكنه لا يستطيع أن يجبره على الامتناع، فعلم الأخلاق ليس ضمانًا أكيدًا على تسوية الأخلاق، وعدم معرفته لا تمنع أن يكون الإنسان على قدر عال من الأخلاق، لكن الأمر كله أن دراسة الأخلاق تمد صاحبها بالخبرة والدقة في تقدير السلوك الأخلاقية والحكم عليها، وهناك فرق بين حُكْم مرجعه البحث والدراسة وحكم مرجعه العادات والتقاليد.
يتبعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الشعراء، الآية 137
(2) صححه الألباني في صحيح الجامع رقم 2349، وصححه السيوطي في الجامع الصغير رقم 2584، وصححه الزرقاني في مختصر المقاصد رقم 184.
(3) Ethics by Maria Imelda Pastrana Nabor, P. 2, Published 2003 by: Quezon City: Katha Publising Co
(4) الأدب الإغريقي: تراثًا إنسانيًا وعالميًا، ص347، تأليف: أحمد عثمان، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الثانية.
(*) كتب أرسطو ثلاثة كتب في الأخلاق، (علم الأخلاق الكبير)، (علم الأخلاق إلى أويديم) و (علم الأخلاق إلى نيقوماخوس)، وهذا الأخير هو الأهم والوحيد المتأكد نسبته إلى أرسطو، وقيل أن (نيقوماخوس) هو ابن أرسطو وقد مات في حياة أرسطو فأهداه له، وقيل أن نيقوماخوس نفسه هو الذي كتب الكتاب (وهذا رأي شاذ). منقول عن صفحة:
(*) كتب أرسطو ثلاثة كتب في الأخلاق، (علم الأخلاق الكبير)، (علم الأخلاق إلى أويديم) و (علم الأخلاق إلى نيقوماخوس)، وهذا الأخير هو الأهم والوحيد المتأكد نسبته إلى أرسطو، وقيل أن (نيقوماخوس) هو ابن أرسطو وقد مات في حياة أرسطو فأهداه له، وقيل أن نيقوماخوس نفسه هو الذي كتب الكتاب (وهذا رأي شاذ). منقول عن صفحة: