نصوص فلسفية: كتاب في رحاب الفلسفة
مجزوءة الوضع البشري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مفهوم الشخص
المحور الأول: الشخص والهوية
1-
نص جون لوك: الهوية والشعور
"لكي نهتدي إلى ما يكون
الهوية الشخصية لابد لنا أن نتبين ما تحتمله كلمة الشخص من معنى. فالشخص، فيما
أعتقد، هو كائن مفكر عاقل قادر على التعقل والتأمل وعلى الرجوع إلى ذاته باعتبار
أنها مطابقة لنفسها، وأنها هي نفس الشيء الذي يفكر في أزمنة وأمكنة مختلفة. ووسيلته
الوحيدة لبلوغ ذلك هو الشعور الذي يكون لديه عن أفعاله الخاصة. وهذا الشعور لا
يقبل الانفصال عن الفكر بل هو، فيما يبدو لي، ضروري وأساسي تماما بالنسبة للفكر،
مادام لا يمكن لأي كائن(بشري) كيفما كان، أن يدرك إدراكا فكريا دون أن يشعر أنه
يدرك إدراكا فكريا.
عندما نعرف
أننا نسمع أو نشم أو نتذوق أو نحس بشيء ما أو نتأمله أو نريده، فإنما نعرف ذلك في
حال حدوثه لنا. إن هذه المعرفة تصاحب على نحو دائم إحساساتنا وإدراكاتنا الراهنة،
وبها يكون كل واحد منا هو نفسه بالنسبة إلى ذاته(...) إذ لما كان الشعور يقترن
بالفكر على نحو دائم، و كان هذا ما يجعل كل واحد هو نفسه، و يتميز به، من ثم، عن
كل كائن مفكر آخر، فإن ذلك هو وحده ما يكون الهوية الشخصية أو ما يجعل كائنا عاقلا
يبقى هو هو".
جون لوك، مقالة في الفهم
البشري، الكتاب II فصل 27، فقرة 9 ترجمه إلى
الفرنسية كوسط، ونشره إميليان نايرت، فران، 1994 ص : 264-265
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2-
نص شوبنهاور: الهوية والإرادة
"على ماذا تتوقف
هوية الشخص ؟ ليس على مادة جسمه، فإن هذه تتجدد في بضعة أعوام، وليس على صورة هذا
الجسم، لأنه يتغير في مجموعة وفي أجزائه المختلفة، اللهم إلا في تعبير النظرة، ذلك
أنه بفضل النظر نستطيع أن نتعرف شخصا ولو مرت سنوات عديدة.
وباختصار فإنه رغم
التحولات التي يحملها الزمن إلى الإنسان، يبقى فيه شيء لا يتغير، بحيث نستطيع بعد
مضي زمن طويل جدا أن نتعرف عليه، وأن نجده على حاله، وهذا ما نلاحظه أيضا على
أنفسنا. فقد نشيخ ونهرج، ولكننا نشعر في أعماقنا أننا ما زلنا كما كنا في شبابنا،
بل حتى في طفولتنا. هذا العنصر الثابت الذي يبقى دائما في هوية مع نفسه دون أن
يشيخ أو يهرم أبدا، هو بعينه نواة وجودنا الذي ليس في الزمان. وقد يرى الناس عامة
أن هوية الشخص تتوقف على هوية الشعور، فإذا كنا نعني بهذا الذكرى المترابطة لمسار
حياتنا، فإنها لا تكفي لتفسير الأخرى (أي هوية الشخص)، وليس من شك أننا نعرف عن
حياتنا الماضية أكثر مما نعرف عن رواية قرأناها ذات مرة، ورغم ذلك فإن ما نعرفه عن
هذه الحياة قليل. فالحوادث الرئيسية والمواقف الهامة محفورة في الذاكرة، أما
الباقي، فكل حادثة نذكرها تقابلها آلاف الحوادث التي يبتلعها النسيان، وكلما هرمنا
توالت الحوادث في حياتنا دون أن تخلف وراءها أثرا. ويستطيع تقدم السن أو المرض، أو
إصابة في المخ أو حمق أن يحرمنا كلية من الذاكرة، ومع ذلك فإن هوية الشخص لا
يفقدها هذا الاختفاء المستمر للتذكر. إنها تتوقف على الإدارة التي تظل في هوية مع
نفسها، وعلى الطبع الثابت الذي تمثله (...).
ولاشك أننا قد تعودنا
تبعا لعلاقتنا بالخارج أن نعتبر الذات العارفة هي ذاتنا الحقيقية، ذاتنا العارفة
التي تغفو في المساء ثم تستغرق في النوم، للتألق في الغد تألقا أقوى. ولكن هذه
الذات ليست سوى وظيفة بسيطة للمخ، وليست هي ذاتنا الحقيقية. أما هذه، التي هي نواة
وجودنا، فهي التي تختفي وراء الأخرى، وهي التي لا تعرف في قراراتها غير شيئين : أن
ترد أو ألا تريد."
أرثور شوبنهاور،
العالم بوصفه إرادة وتمثلا، ترجمة بوردو، م.ج.ف، 1966.3 ص : 943
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المحــــــور
الثاني : الشخص بوصفه قيمة
1-
نص كانط: الشخص غاية في ذاته
" يوجد الإنسان وبوجه
عام كل كائن عاقل، بوصفه غاية في ذاته، وليس مجرد وسيلة يمكن أن تستخدمها هذه
الإرادة أو تلك وفق هواها. ففي جميع هذه الأفعال، كما في تلك التي تخص ذاته والتي
تخص الكائنات العاقلة الأخرى، يجب دائما اعتباره غاية في ذات الوقت. إن جميع
موضوعات الميول ليس لها إلا قيمة مشروطة، ذلك لأنه لو كانت الميول والحاجات
المشتقة منها غير موجودة لكان موضوعها بدون قيمة. لكن الميول ذاتها، بوصفها مصادر
للحاجة، لها قدر قليل من القيمة المطلقة التي تمنحها الحق في أن تكون مرغوبة
لذاتها، وأكثر من ذلك، ينبغي على كل كائن عاقل أن يجعل أمنيته الكلية هي التحرر
التام منها.
ومن هنا فقيمة جميع
الموضوعات التي نكتسبها بفعلنا هي دائما قيمة مشروطة. فالموجودات التي يعتمد
وجودها، والحق يقال، لا على إرادتنا، بل على الطبيعة، مادامت موجودات موجودات
محرومة من العقل، ليس لها مع ذلك إلا قيمة نسبية، قيمة الوسائل، وهذا هو السبب
الذي من أجله يدعوها المرء أشياء؛ بينما الموجودات العاقلة تدعى أشخاصا، ذلك أن
طبيعتها تدل على من قبل بوصفها غايات في ذاتها، أعني شيئا لا يمكن استخدامه ببساطة
كوسيلة، شيء يحد بالتالي من كل قدرة على التصرف حسب هوانا (وهو موضوع احترامنا تلكم
إذن ليست مجرد غايات ذاتية، يملك وجودها، من حيث هو معلول لفعلنا، قيمة بالنسبة
إلينا، بل هي غايات موضوعية أعني أشياء وجودها غاية في ذاته، بل وتكون غاية بحيث
لا يمكن أن نستبدل بها أية غاية أخرى. ويلزم أن تقوم بخدمتها الغايات الموضوعية،
بوصفها مجرد وسائل (...)
وعلى ذلك، فإذا كان
لابد للعقل من مبدأ عملي أسمى، كما لابد للإدارة الإنسانية من أمر مطلق، فإن هذا
المبدأ يلزم أن يكون بحيث يكون بالضرورة، عند تمثل ما هو غاية في ذاته، غاية لكل
إنسان، فهو يشكل مبدأ موضوعيا للإدارة، ويمكن بالتالي أن يكون بمثابة قانون عملي كلي.
وأساس هذا المبدأ هو التالي : إن الطبيعة العاقلة توجد كغاية في ذاتها.
إمانويل كانط، أسس
ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة فيكتور دلبوس، دولاغراف، 1969، ص : 148-149
Emmanuel Kant, Fondements de
la métaphysique des mœurs.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2-
نص غوسدورف: استقلالية الشخص
"إن فكرة استقلال الذات المفكرة والشخص
الأخلاقي، كما تمت صياغتهما من طرف الفلاسفة، لم تتحقق في الفكر الإنساني إلا في
وقت متأخر. فهي بمثابة نقطة وصول لمسار طويل في التعلم، وتحقيقا للنموذج الذي ربما
ينبغي على الإنسان أن يتوجه إليه بجهده. لكن، لا ينبغي أن ننسى أن تجربة الاستقلال
والعزلة لا تشكلان الواقعة الأولى في الوجود، كما عاشها الناس فعليا. فالادعاءات
الإيديولوجية حول الإنسان، لا يمكن بأية حال، أن تنكر أشكال التضامن البسيطة
والأساسية التي سمحت لتلك التنظيمات بالبقاء، وللفكر أن يتشكل على أرض بشر أحياء.
لهذا فإن أخلاقا
ملموسة هي التي ينبغي أن تحدد الجهد المبذول لأجل الكمال الشخصي، ليس فقط في مجال
الوجود الفردي، ولكن أيضا، وأولا، في مجال التعايش وداخل المجموعة البشرية. وفي
الحقيقة لا يتعلق الأمر هنا بنظامين مختلفين، فالعلم واحد، وكل نشاط بشري يندرج
داخل هذا العالم الذي تساهم قيمه في النمو والارتقاء.
يعتقد
"الفرد" أنه إمبراطور داخل إمبراطورية، فيضع نفسه في مقابل العالم وفي
تعارض مع الآخرين، بحيث يتصور نفسه كبداية مطلقة. وعلى العكس من ذلك يدرك الشخص
الأخلاقي أنه لا يوجد إلا بالمشاركة. فيقبل الوجود النسبي، ويتخلى نهائيا عن
الاستكفاء الوهمي. إنه ينفتح بذاته على الكون، ويستقبل الغير. لقد فهم الشخص
الأخلاقي، أن الغنى الحقيقي لا يوجد في التحيز والتملك المنغلق، كما لو كان بإزاء
كنز خفي، ولكن يوجد بالأحرى في وجود يكتمل ويتلقى بقدر ما يعطي ويمنح".
جورج غوسدورف، مقالة
في الوجود الأخلاقي، مكتبة أرموند كولان، باريس، 1949، ص : 201-202
Georges Gusdorf, Traité sur
l’existence morale.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المحــــــور
الثالث : الشخص بين الضرورة و الحرية
1-
نص ج ب سارتر: الإنسان مشروع
"يعرف الإنسان بمشروعه. هذا الكائن
المادي يتجاوز دائما الوضعية التي يوجد فيها ويحددها بالتعالي عليها لكي يتموضع
بواسطة الشغل والفعل أو الحركة. ولا يجب الخلط بين المشروع وبين الإرادة التي هي
كيان مجرد، وإن كان المشروع قد يتخذ صورة إرادية في بعض الظروف. إن هذه العلاقة
المباشرة مع الآخر المغاير للذات (...) وهذا الإنتاج الدائم للذات بواسطة الشغل
والممارسة هو بنيتنا الخاصة. وإذا لم يكن [المشروع] إرادة، فهو ليس حاجة أو هوى
كذلك. إلا أن حاجتنا مثل أهوائنا، وأكثر أفكارنا تجريدا ترجع إلى هذه البنية، فهي
دائما خارجة عن ذاتها نحو (...) ذاك ما نسميه الوجود، ولا نعني بذلك جوهرا ثابتا
مرتكزا على ذاته، بل نعني به عدم استقرار دائم واقتلاعا لكامل الجسم خارج ذاته.
وبما أن هذه الوثبة
نحو التموضع تتخذ أشكالا متنوعة بحسب الأفراد، وبما أنها تلقي بنا داخل مجال من
الإمكانات نحقق البعض منها دون البعض الآخر، فإننا نسميها كذلك اختيارا وحرية. غير
أنه يرتكب خطأ عظيم إذا ما وقع اتهامنا بإدخال اللامعقول أو أننا نختلق
"بداية أولى" لا علاقة لها بالعالم أو أننا نمنح الإنسان حرية –صنمية.
وفي الواقع، لا يمكن أن يصدر هذا الاعتراض إلا عن فلسفة آلية. ومن يوجه إلينا هذا
الاعتراض، إنما يريد إرجاع الممارسة والخلق والاختراع إلى إعادة إنتاج المعطيات
الأولية لحياتنا، إنه يريد تفسير الأثر والفعل أو الموقف بعوامل إشراطها، وإن
رغبته في التفسير تخفي إرادة جعل المركب مماثلا للبسيط، ونفي خصوصيات البنيات
وإرجاع التغير إلى الهوية، وهو ما يمثل من جديد سقوطا في الحتمية العلموية.
وعلى العكس من ذلك
يرفض المنهج الجدلي فكرة الاختزال، واعتماد طرح معاكس، قوم على التجاوز مع
المحافظة، بحيث إن أطراف التناقض -الذي وقع تجاوزه- غير قادرة على بيان التجاوز
ذاته ولا على التأليف اللاحق. إن هذا الأخير –على العكس من ذلك- هو الذي يضيء هذه
الأطراف ويتيح فهمها."
جان بول سارتر، نقد
العقل الجدلي غاليمار، 1960، ص : 95
Jean Paul-Sartre, Critique de
la raison dialectique
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2-
نص إمانويل مونييه: الحرية بشروط
حرية الإنسان هي حرية
شخص، وحرة هذا الشخص بالذات وكما هو مركب وموجود في ذاته وفي العالم وأمام القيم.
وهذا يستلزم أن تكون هذه الحرية ملازمة إجمالا لوضعنا الواقعي ومحصورة في نطاق
حدودة.
أن تكون حرا هو أن
تقل، في البدء، هذه الظروف لتجد فيها ارتكازا، ليس كل شيء ممكنا، ولا هو كذلك في
كل لحظة. هذه الحدود تشكل قوة عندما لا تكون ضيقة جدا. الحرية كالجسم، لا تتقدم
إلا بالحواجز والاختيار والتضحية. ولكن فكرة المجانية هنا هي فكرة وجود غني،
والحرية في شروط ملزمة، ليست من الآن فصاعدا "وعيا للضرورة"، كما سماها
"ماركس".
إن هذا هو البداية،
لأن الوعي وعد وبادرة للتحرر ووحده العبد من لا يرى عبوديته، مهما كان سعيدا تحت
سلطتها. إلا أن هذا البدء هو بالكاد إنساني. ولذلك فقبل إعلان الحرية في الدساتير
أو تمجيدها في الخطابات، علينا تأمين الشروط العامة للحرية : الشروط البيولوجية
والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي تسمح لقوى ذات مستوى متوسط أن تشارك في
أعلى نداء للإنسانية، وأن نهتم بالحريات اهتمامنا بالحرية (...).
إن حريتنا هي حرية
إنسان في موقف، وهي كذلك حرية شخص تعطى له قيمة. أنا لست حرا لأني أمارس عفويتي
فقط، بل أصبح حرا عندما أوجه هذه العفوية في اتجاه التحرر أي في اتجاه شخصنة
العالم ونفسي. إذن ثمة مسافة تمتد من الوجود المنبثق إلى الحرية، وهي التي تفصل بين
الإنسان الباطني على حدود الانبثاق الحيوي، والإنسان الذي ينضج باستمرار بأفعاله
وفي الكثافة المتزايدة للوجود الفردي والجماعي. وهكذا فأنا لا أستعمل حريتي بدون
جدوى، بالرغم من أن النقطة التي ألتحم فيها بتلك الحرية متباعدة في أعماق ذاتي.
وليست حريتي تدفقا فحسب، بل هي منظمة، أو بعبارة أفضل هي مطلوبة بنداء.
إمانويل مويي،
الشخصانية، المنشورات الجامعية الفرنسية، 1995، ص : 71-74
Emmanuel Mounier, Le
personnalisme
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مفهوم الغير
المحــــــور الأول : وجود
الغير
1-
هايدجر: تهديد الغير
إن التباعد باعتباره
خاصية مميزة للوجود – مع – الغير، يلزم عنه أن الموجود – هنا يجد نفسه داخل وجود-
مشترك يومي تحت قبضة الغير. إن الموجود – هنا، باعتباره وجودا فرديا خاصا، لا يكون
مطابقا لذاته، عندما يوجد على نمط الوجود – مع- الغير، لأن الآخرين أفرغوه من كينونته
الخاصة. فإمكانيات الوجود اليومية للموجود هنا، توجد تحت رحمة الغير. فالغير في
هذه الحالة ليس أحدا متعينا، بل على العكس من ذلك، بامكان أي كان أن يمثله، فما
يهم هو هذه الهيمنة الخفية التي يمارسها الغير على الوجود-هنا عندما يوجد مع
الغير. فالذات نفسها عندما تنتمي إلى الغير تقوي بذلك من سلطته.
إن " الآخرين
"، الذين نسميهم بهذا الاسم لإخفاء أننا ننتمي إليهم بشكل أساسي، هم الذين
يوجدون منذ الوهلة الأولى، و في الغالب، و في الحياة المشتركة على نمط "
الموجود-هنا".
في استعمالنا لوسائل
النقل العمومية، أو في استفادتنا من الخدمات الإعلامية ( قراءة الصحف مثلا )، نجد
أن كل واحد منا يشبه الآخر. فهذا الوجود- المشترك يذيب كليا الموجود – هنا، الذي
هو وجودي الخاص، في نمط وجود الغير، بحيث يجعل الآخرين يختفون أكثر فأكثر و يفقدون
ما يميزهم و ما ينفردون به. عن وضعية اللامبالاة و اللاتمييز التي يفرضها
الوجود-مع-الغير، تسمح للضمير المبني للمجهول " on" أن يطور خاصيته
الديكتاتورية التي تميزه.
إننا نتسلى و نلهو كما
يتسلى " الناس " و يلهون، و نقرأ الكتب و نشاهد الأفلام، و نحكم على
الأعمال الأدبية و الفنية كما يقرأ الناس و يشاهدون الأفلام و يحكمون على الأعمال
الأدبية، و ننعزل عن الحشود كما ينعزل الناس عنها و نعتبر فضيحة ما يتعبره الناس
كذلك ( ...)
يمكن أن نقول : لقد
أريد هذا، كما يمكن أن نقول لا أحد أراد هذا فيصبح كل واحد هو آخر، و لا أحد هو هو
، إن المجهول الذي يجيب عن سؤال من هذا الموجود- هنا ليس شخصا متعينا، إنه لا أحد.
مارتن هايدجر، الوجود
و الزمن، الترجمة الفرنسية لبويم دي ويلهانس، غاليمار، 1964،ص: 158-160
Martin Heidegger, Etre et
Temps.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2-
سارتر: نظرة الغير
"إذا كان الغير
موجودا، مهما يكن هذا الوجود أو أينما يوجد، و أيا كانت علاقته معي، و دون أن يؤثر
في ذاتي إلا بمجرد انبثاق وجوده، فإن لي مظهرا خارجا ، و لي طبيعة، و سقوطي الأصلي
هو وجود الغير. إن الخجل – مثله مثل الكبرياء- هو إدراك ذاتي بوصفها طبيعة، و إن
كانت هذه الطبيعة نفسها تفلت مني، و غير قابلة لأن تعرف. ليس هذا الأمر شعورا مني
بفقدان حريتي لأصير شيئا، لكن هذه الحرية توجد هناك، خارج حريتي المعيشة،
باعتبارها صفة معطاة لهذا الوجود الذي أكونه بالنسبة إلى الغير.
إنني أتملك نظرة الغير
في صميم فعلي، بوصفها تجميدا لممكناتي الخاصة و استلابا لها ( ... ) إن الغير بوصفه نظرة ليس غير تعالي أنا
المعلو عليه (Transcendance transcendé) . (...) أقدم نفسي لتقديرات
الغير و أحكامه من حيث إني موضوع زماني أو مكاني في العالم ( ... ) [ فكوني أنظر
هو كوني] موضوعا مجهولا لتقديرات لا يمكن معرفتها، خصوصا التقديرات المرتبطة
بأحكام القيمة: لكن، و بدقة، في نفس الوقت
الذي أتعرف فيه، بواسطة الخجل أو الكبرياء، أساس تلك التقديرات، فإني لا أكف عن
اعتبارها كما هي، أعني إحداث تجاوز حر للمعطى تجاه عالم الممكنات. إن الحكم (
القيمي ) هو الفعل المتعالي للموجود الحر. و هكذا فإن كوني مرئيا ( من طرف الغير )
يشكلني بوصفي موجودا بدون دفاع عن حرية ليست هي حريتي.
بهذا المعنى نظهر
للغير، بحيث نستطيع اعتبار أنفسنا " عبيدا "، لكن هذه العبودية ليست
النتيجة التاريخية و الممكن تجاوزها، لحياة ذات شكل مجرد للشعور. فأنا عبد بالقدر
الذي يرتبط فيه وجودي بحرية ليست حريتي، لكنها الشرط الأساسي في وجودي."
جان بول سارتر، الوجود
و العدم، بحث في الانطولوجيا الظاهراتية، ترجمة عبد الرحمان بدوي، منشورات دار
الآداب، بيروت 1966،ص: 441-448 ( بتصرف ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المحــــــور الثاني : معرفة الغير :
1-
نص غاستون بيرجي: عزلة الأنا
كيف لا أحس (...) بأن
هذه الحميمية مع ذاتي التي تحميني وتحددني
، هي عائق نهائي أمام كل تواصل مع الغير ؟ فقبل قليل ، كنت بالكاد موجودا وسط
الآخرين . ولآن ، اكتشفت فرحة الإحساس بأنني أحيا إلا أنني وحيد في الانتشاء
بفرحي .
إن روحي ملك لي فعلا ، غير أنني سجين داخلها ، ولا يمكن للآخرين اختراق وعيي ، مثلما لا يمكنني فتح أبوابه لهم حتى ولو تمنيت ذلك بكل صدق (...) إن نجاحي
الظاهر يخفي هزيمة شاملة : فالتجربة الذاتية وحدها هي الوجود الحقيقي ، وهي تجربة
تظل غير قابلة ، اعتبارا لجوهرها ، لتكون
موضوع نقل أو إخبار . فأنا أعيش وحيدا محاطا
بسور ؛ وأشعر بالعزلة أكثر من شعوري
بالوحدة ، وعالمي السري سجن منيع .
واكتشف، في نفس الوقت
،أن أبواب عالم الآخرين موصدة في وجهي وعالمهم منغلق بقدر انغلاق عالمي أمامهم .
إن ألم الغير ، يكشف لي بمرارة انفصالنا الجدري عن بعضنا البعض ،انفصالا لا يقبل
بتاتا الاختزال .فعندما يتألم صديقي ،يمكنني ،بكل تأكيد ، مساعدته بفعالية
،ومواساته بكلامي ،ومحاولة تعويض الألم الذي
يمزقه بلطف .غير أن ألمه يبقى رغم ذلك ،ألما برانيا بالنسبة لذاتي .فتجربة
الألم تظل تجربته الشخصية هو وليست تجربتي أنا .إني أتعذب بقدر ما يتعذب ، وربما
أكثر منه ،لكن دائما بشكل مغاير تماما عنه .فأنا لا أكون أبدا "معه"
بشكل كلي (......)
هكذا هو الإنسان ،سجين في آلامه ،ومنعزل في لذاته ووحيد
في موته (...)محكوم عليه بان لا يشبع أبدا رغبته في التواصل،والتي لن يتخلى عنها
أبدا.
غاستون بيرجي ، من
القريب إلى الشبيه ، حضور الغير ، عمل جماعي ، 1957 ، ص 89 – 88
Gaston berger , du prochain au
semblable , Esquisse d'une phénoménoloqie de la solitude .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2-
نص هوسرل: البينذاتية أساس معرفة الغير
إني أدرك الآخرين – أدركهم بوصفهم موجودين في
الواقع - داخل سلسلات من التجارب المتغيرة
والمتطابقة في نفس الآن ، وأدركهم كذلك بوصفهم موضوعات في العالم ، لا مجرد أشياء
من الطبيعة ، وإن كانوا يشكلون جزءا منها .
يظهر لنا " الآخرون " في التجربة بوصفهم
المتحكمين نفسيا في أجسامهم الفيزيولوجية
. ولما كانوا مرتبطين بأجسامهم بطريقة خاصة ، ويشكلون " موضوعات نفسية –
طبيعية " ، فهم موجودون في العالم
.في نفس السياق ، فأنا أدركهم في الوقت نفسه باعتبارهم ذواتا لهذا العالم نفسه : إنهم ذوات تدرك العالم ،
العالم ذاته ، الذي أدركه ومن هنا تتكون
لديهم تجربة عني أنا ، كما تتكون لدي تجربة عن " العالم " ، ومن خلاله عن " الآخرين " (....) .
لدي في ذاتي ، وفي
إطار حياتي الشعورية الخالصة
المختزلة بشكل متعال تجربة عن
" العالم " وعن " الآخرين "
- وهذا طبقا للمعنى نفسه لهذه التجربة -
لا بوصفها عملا لنشاطي التركيب والخاص بي على نحو ما ، بل بوصفها تجربة عن
عالم غريب عني ، عالم " بينذاني "
موجود لكل واحد منا وموضوعاته في متناولنا . ومع ذلك ، لكل واحد منا تجاربه
الخاصة به ، ووحدات تجاربه وظواهره ، كل واحد " ظاهرة للعالم " خاصة به
، بينما عالم التجربة موجود في ذاته ، في مقابل كل الذوات التي تدركه، في مقابل كل
عوالمها الظواهر . فكيف يمكن أن نفهم ذلك
؟ (...)
إن المشكلة تعرض في
البداية كمشكلة خاصة ، غنها تطرح بصدد " وجود الغير لأجل الأنا " ومن تم
تطرح بوصفها مشكلة لنظرية متعالية في تجربة الآخر ، مثل مسألة "
التوحد بالآخر حدسيا " ( Einfûblung
) . لكن مدى أثر مثل هذه النظرية ينكشف لنا توا باعتباره
أكبر مما يبدو لنا من أول وهلة : إنها تعطينا في نفس الوقت قواعد لتأسيس نظرية
متعالية عن عالم موضوعي .
وكما بينا ذلك سابقا ،
فالأمر يتعلق بالبحث في معنى وجود العالم
، وبصفة خاصة ، بمعنى لفظ " الطبيعة
" بوصفها طبيعة موضوعية ، توجد لكل واحد منا ، إنها الخاصية التي نفهمها
كلما تحدثنا عن الواقع الموضوعي .
إدموند هوسرل
، تأملات ديكارتية ، المدخل إلى الفينومينولوجيا ، التأمل الخامس ، الترجمة الفرنسية ، بيفير
وليفيناس ، فران 1980 ، ص : 76-77 .
Edmund husserl , méditations cartésiennes .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المحــــــور
الثالث : العلاقة مع الغير
1-
نص كانط: الصداقة حب
واحترام
"إن الصداقة، في صورتها
المثلى، هي اتحاد بين شخصين يتبادلان نفس مشاعر الحب والاحترام . ونرى بسهولة أن
الصداقة عبارة عن "مثال" (Idéal ) للتعاطف و التواصل بين الناس، وغاية هذا المثال تحقيق
خير الصديقين اللذين جمعت بينهما إرادة طيبة أخلاقية ، بالرغم من أن الصداقة لا
تضمن سعادة الحياة .
إن قَبـول هـذا المثال
يجعلنا مؤهلين للبحث عن السعادة ما دامت الصداقة تمثل بالنسبة للإنسان واجبـا .
هذا يعني أنه من السهل أن ننظر إلى الصداقـة باعتبارها فكـرة بسيطة ، يستحيل
تحقيقها فعـلا. غير أن السير في اتجاه تحقيقها يشكل واجبا عقليا غير عادي ، و مع
ذلك سيحقق هذا الواجب الخضوع له بكل احترام .
كيف يمكن
للإنسان في علاقته بقريبه أن يساوي بين العناصر المطلوب توفرها في واجب أخلاقي ما،
فواجب الرعاية والعناية المتبادلة مثلا بين شخصين يفترض حضور نفس الإستعداد العقلي
عند الطرفين معا(...) إن أحد الشخصين عندما يظهر حماسا في مشاعر الحب و الإحترام ،
يصل في هذه الحالة إلى التوازن المطلوب للصداقة .
لذلك ، يمكن تصور
مشاعر الحب باعتبارها قوة جذب بين صديقين، و مشاعر الإحترام قوة دفع بينهما . و
يتولد عن الحب تجاذب بين الصديقين ، ويتولد عن الإحترام تباعد بينهما .
يمكن
للملاحظات الآتية أن تثير انتباهنا إلى الصعوبات التي تواجهها الصداقة : فإذا
تناولناها من جانبها الأخلاقي ، فواجب الصديق تنبيه صديقه إلى أخطائه متى ارتكبها
، لأن الأول يقوم بهذا التنبيه لأجل خير الثاني ، وهذا الواجب هو واجب حب الأول
تجاه الثاني. بينما تشكل أخطاء الثاني تجاه الصديق الأول إخلالا بمبدأ الاحترام
بينهما(...) لكن كيف لا نتمنى أن يكون لنا صديق في وقت الشدة! ألا نكون في هذا
التمني نشعر بقيد يشدنا إلى قدر غيرنا ، فيضيف إلينا مشقة تحمل أعبائه . لا يجب
إذن أن تقوم الصداقة على منافع مباشرة و متبادلة ، بل يجب أت تقوم على أساس أخلاقي
خالص ."
إمانويل كانط :
ميتافيزيقا الأخلاق، ج 2، ترجمه إلى الفرنسية آلان رونو، فلاماريون، 1994، ص:
342-343.
Emmanuel Kant, Métaphysique
des Mœurs
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2-
أوغيست كونت: الغيرية
« كل شيء فينا ينتمي للإنسانية،
وكل شيء يأتينا منها: الحياة، والثروة، والموهبة والمعرف والحنان (...) وهكذا ،
فعندما تختزل النزعة الوضعية كل الأخلاق الإنسانية في فكرة واحدة هي أن يحيا
الإنسان من أجل غيره ، فأن هذه النزعة تهدف إلى تهذيب الغريزة البشرية الكونية
وتسييجها ؛ بعد أن تم الارتقاء بالفكر النظري البشري تجاوز كل التركيبات الذهنية
اللاهوتية والميتافيزيقية (...).
لا يمكن للإنسان
الأكثر مهارة وفطنة ونشاطا أن يرد لإنسانية ولو جزءا صغيرا مقابل ما تلقاه منها.
يستمر الإنسان ، كما كان في طفولته ، يتغذى بالإنسانية ، ويتلقى الحماية من
الآخرين ، ويطور قدراته داخلها (...) وذلك كله بفضل الإنسانية عليه (...) لكن وبدل
أن يتلقى كل شيء منها بواسطة آبائه، تنقل الإنسانية له خيراتها عبر فاعلين متعددين
غير مباشرين، لن يتعرف على الكثير منهم.
أن يحيى الإنسان من
أجل الغير، يعني إذن، عد كل واحد منا، واجبا ضروريا ومستمرا ينبثق عن هذه الواقعة
المتعذر تجاوزها وهي: أن يحيى الإنسان بفضل الغير. إنها ، وبدون حماس عاطفي ،
النتيجة الضرورية المستخلصة من تقدير دقيق لمجريات الوقع المدرك فلسفيا في مجموعه (...)
علاوة على ذلك، يجب أن
يقوم انسجام أخلاقي، وبصفة جوهرية، على الغيرية، فهي وحدها القادرة أن تزودنا
بأعظم زخم للحياة. إن الكائنات البشرية المنحطة، التي تطمح اليوم أن تحيى بفضل
الغير، يجب عليها أن تتخلى عن أنانيتها الهمجية. فإذا ما تذوقت هذه الكائنات، بما
فيه الكفاية، ما تفضلت بتسميته ملذات الوفاء، ستفهم آنذاك أن الحياة من أجل الغير
تمنح الوسيلة الوحيدة لتطوير كل الوجود البشري بحرية (...)
وحدها دوافع التعاطف
الإنسانية تصنع الانطلاقة الحقيقية الثابتة لحياة من أجل الغير ، حياة يجد فيها كل
واحد من أفراد المجتمع مساعدة من طرف الآخرين ، لكن مقابل هذه المساعدة يقوم هؤلاء
بكبح ميولات الفرد الشخصية والأنانية".
Auguste Comte: catéchisme positiviste.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للاطلاع على شرح النصوص بالتفصيل: http://www.tafalsouf.com