في رحاب العلوم الانسانية  في رحاب العلوم الانسانية
recent

آخر المقالات

recent
random
جاري التحميل ...

نحو إعادة بناء فكرنا التربوي

نحو إعادة بناء فكرنا التربوي
بقلم‏:‏ د‏.‏ مصطفي النشار

إن عشرات بل ربما مئات الدراسات التي أجريت لرصد واقع العملية التعليمية والتربوية قد أشارت وتشير دوما إلي تدني مستوي العملية برمتها‏.‏

وإذا غضضنا النظر عن العناصر المختلفة للعملية التعليمية وركزنا علي أحدها فقط وهو إعداد المعلم‏,‏ فلاشك أنه من الضروري أن نعترف بالقصور الشديد في هذا الجانب‏,‏ فالكليات والمعاهد التي تعد المعلم تعاني من كم هائل من المشكلات سواء من ناحية القصور الملاحظ في المعلم الذي يعد المعلم أي عضو هيئة التدريس غير المؤهل بالشكل الأمثل وغير المكترث في معظم الأحيان بكل ما يجري حوله من تطورات علمية أو من ناحية آليات ونظم التدريس ووسائل التقييم والمتابعة‏.‏ وإذا كان هذا المعلم مؤهلا بالشكل اللائق وكان مهتما بتحسين أدواته ومتابعة التطورات في مجال تخصصه فهو لا يجد البيئة العلمية المواتية ولا الأدوات التي تمكنه من أداء دوره بالشكل الأمثل‏,‏ فضلا عما يعانيه من عدم الاستقرار المادي والمعنوي في ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة والظروف الإجتماعية المحبطة من حوله‏.‏

وبالطبع فإن كل ذلك ينعكس بالسلب علي إعداد المعلم الذي سيتخرج في هذه المعاهد والكليات وقد تعود علي الأداء المعلب الذي يفتقر إلي الإبداع والخيال لأنه أعد بهذا الشكل في معهده أو كليته‏,‏ وهو في ذات الوقت سيمارس عمله في التعليم بنفس الطريقة بل بما هو أسوأ منها‏.‏

إن طرق التدريس الحالية ـ كما يشهد علي ذلك د‏.‏ فاروق فهمي أحد خبراء التعليم في مصر ـ ترتكز في الغالب الأعم علي إعطاء كم معلوماتي هائل غير مترابط مع نفسه أومع بيئة الطالب‏.‏ لذا لا يتمكن الطالب من ربط ما يدرسه مع ما سبق دراسته في بنيته المعرفية فيلجأ إلي حفظها وبذلك لا تدخل في بنيته المعرفية وتكون عرضة للنسيان بعد اجتياز امتحانات تقيس الحدود الدنيا للتعلم‏.‏ وهنا يحدث الخطر المزدوج‏,‏ حيث يلجأ الطلاب للدروس الخصوصية كضرورة لبرشمة المعلومات المطلوبة لاجتياز الامتحانات‏,‏ وهنا يتكرس مفهوم الأداء المعلب للمعلم والمتعلم بل والنظام التعليمي ككل‏.‏ فضلا عن عدم دخول المعلومات في بنية المعلم والمتعلم المعرفية ولا تشكل إطارا أو خلفية ثقافية يستند إليها في تقدمه المعرفي في إطار تقدمه في المراحل التعليمية المختلفة أو حتي في إطار حياته العامة‏.‏

وقد كنت شاهدا علي ذلك حينما شاركت في تقويم الكتب الفلسفية المقررة علي الثانوي العام في التعليم المصري وطلب منا حذف الحشو والتكرار وتصحيح الأخطاء العلمية التي أشار إليها التقرير الذي قدمته للوزارة‏,‏ وتم ذلك كمرحلة تمهيدية لإعداد كتب تدريسية جديدة حسب المواصفات القياسية العالمية والأهداف المرجوة من تدريس هذه المواد الفلسفية لطلاب الثانوي العام‏.‏

وبعد أن تم نشر هذه الكتب بالتصويبات الجديدة استدعيت من قبل الوزارة للقاء عبر الفيديوكونفرانس مع معلمي الفلسفة في المحافظات المختلفة‏,‏ وكم كانت المفاجأة أنهم اعترضوا علي ما تم من تصحيح للأخطاء الواردة في تلك الكتب المقررة ليس لكونها لم تكن أخطاء صححت‏,‏ فقد شرحت لهم هذه الأخطاء ومبررا ضرورة تصحيحها حتي يتم فهم الموضوع المقرر بالشكل السليم‏,‏ ولكن لأنهم قد تعودوا وطلابهم علي ما كان يدرس بالشكل القديم‏!!‏

وهكذا فإن واقع التعليم لدينا يحفل بالكثير من مواطن القصور وأخطرها هو ذلك الأداء المعلب الذي لا يكرس إلا الجمود والتخلف وعدم القدرة علي الابتكار والإبداع فضلا عن الفهم والاستيعاب ودخول المعلومات في البنية المعرفية للمعلم والمتعلم‏.‏

وعلي ذلك فإن إعادة بناء فكرنا التربوي المعاصر ينبغي أن يبني علي أساس إعادة التذكير بالأهداف الأربعة الكبري للتعليم التي تكاد تلقي الاتفاق من فلاسفة التربية الغربيين والشرقيين علي حد سواء وهي كما لخصها ادجار موران في مقال له عن إصلاح التفكير والتربية في القرن الحادي والعشرين كما يلي‏:‏

‏1‏ ـ العبرة في التربية بالكيف لا بالكم‏,‏ وهذا الهدف قد عبر عنه ولخصه الفيلسوف الشهير مونتاني منذ القرن السادس عشر حينما قال إن العبرة في التربية بالكيف وليست بالكم والمقصود أنه لا ينبغي في التعليم كما أشرنا سابقا أن نسعي إلي حشو الأدمغة بالمعلومات‏,‏ بل ينبغي أن نسعي إلي تنظيمها طبقا لمحاور حساسة وجوهرية وليس المقصود هنا تقليصا للكليات لترتد إلي أجزائها الأولية بل المقصود هو تمييزها والربط بينها‏,‏ حيث تمكن مفاهيم النظام والتنظيم الذاتي من البحث عن العلاقات بين الأجزاء والكل ومن إدراك التفاعلات والانبثاقات‏(‏ أي الصفات الجديدة الصادرة عن الكل المشكل‏)‏ فالثقافة مثلا تظهر مع تأسيس المجتمع انطلاقا من العلاقات بين الناس ولكن مفعولها يرتد علي بني الانسان الذين يحققون أنفسهم كأفراد‏.‏

‏2‏ ـ التربية من أجل التعريف بمنزلة البشر في الكون‏,‏ وهذا الهدف الذي نرمي إليه من خلال التعليم عرضه جان جاك روسو في كتابه الشهير إميل حينما قال أريد تعليمه المنزلة البشرية‏,‏ وهذا إشارة منه إلي الضرورة الانسانية التي تحتم علي أي تعليم للبشر الاهتمام بإبراز النزعة الانسانية حيث إن البشر جميعا يعيشون حياة مشتركة ويواجهون مصيرا مشتركا ويخضعون لمشاكل متماثلة تتصل بالحياة والموت‏.‏

‏3‏ ـ التربية والتعليم للحياة‏(‏ أعلمه كيف يحيا‏),‏ وهذا أيضا من الأهداف التي أكدها جان جاك روسو في كتابه السابق حيث قال أريد أن أعلمه كيف يحيا في إشارة واضحة منه ـ ينبغي أن نأخذها في الحسبان في كل الأنظمة التعليمية ـ إلي أن التدريب لا يخص المعارف وحدها والتقنيات والمناهج المنتجة‏,‏ بل ينبغي أن نهتم أيضا بعلاقات الشخص بالآخر وبنفسه ذاتها‏.‏ وفي ذلك إشارة إيضا إلي أهمية تعليم فنون الموسيقي والآداب المختلفة باعتبارها لغة الأرواح والعواطف الإنسانية وهي ما تبث في الانسان السمو والافتتنان بالجمال وهي ما تجعل المرء يصمد في الحياة وتجعله يشعر بالسعادة والسرور والحب والصداقة وهي أمور من شأنها أن توحد شعور البشر‏.‏

‏4‏ ـ تكوين المواطنين‏:‏ وهذا الهدف يشير إلي المقصود الأعم بالمعني السياسي للتربية والتعليم‏,‏ إذ إن التعليم يهدف إلي تكوين المواطنين الواعين بانتمائهم الوطني والكوني‏,‏ وبين هذين الطرفين عبر مواطنات وسيطة ـ علي حد تعبير موران ـ كالمواطنة الأوروبية مثلا‏.‏

إن المواطنة هنا تعني العلم بأن التفرد يتضمن التعدد وأن التعدد يتضمن التفرد وهذا ما يجب أن يترسخ منذ المراحل الأولي للتربية‏.‏

إن تلك الأهداف التربوية التي يعاد علي أساسها صياغة التفكير التربوي في القرن الحادي والعشرين تتسق تماما مع ما بات يعرف الآن بالشكل الجديد للمعرفة الشاملة الذي يجمع ـ علي حد تعبير روبرتو كرنيرو في مقال له عن الثقافة للجميع علي مدي الحياة ـ ثلاثة أنواع من التقدم الإنساني‏:(‏ أ‏)‏ التنمية الشخصية والثقافية‏,‏ ب البحث عن المعني أي عن مشاعر المواطنة والانتماء إلي أمة والتماهي مع الإنسانية وهي مشاعر يتعين علي المدرسة تغذيتها‏,(‏ جـ‏)‏ اكتساب واقيات ضد خطر إقصاء التدريب بواسطة التمرين الثقافي المتواصل مدي الحياة وبعيدا جدا عن الخروج من النظام المدرسي‏,‏ ولاشك أننا نتفق تماما مع هذه الرؤية المتكاملة للأسس التي ينبغي أن نعيد إصلاح تفكيرنا التربوي علي أساسها والمتسقة مع صور التقدم الإنساني المعاصر‏,‏ فهي تمزج بين ما هو علمي وما هو إنساني‏,‏ وتؤكد أهمية التكامل في تحقيق الأهداف التربوية والترابط بينها بحيث تشكل مواطنا يمتلك المعرفة التي يمتزج فيها ما هو علمي بما هو إنساني ويتضافر فيها ما هو محلي وطني مع ما هو عالمي‏.‏

http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/9/22/WRIT3.HTM#top

عن الكاتب

في رحاب العلوم الانسانية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

في رحاب العلوم الانسانية