طقطقة (قصة قصيرة)
بعينيه الشهلاوين وشعره الأسود الكثيف وابتسامته العريضة الآمنة، إتّخذ مكانه على كرسيه حول مائدة العشاء، وكالعادة قَبلَ أربعةِ إخوته، وهو ما إن يحضر حتى يشيع حراك وتضاحك لذيذ في المكان، فنشاطه عارم لا يعدله إلاّ ذكاؤه الوقّاد وثقته البالغة بنفسه، ولسببٍ لا يدريه على وجه اليقين أحدٌ، فهو الوحيد من بين إخوته الذي لا يعرف التهيّب أو التردّد، مع أنّه ليس وقحا أو صفيقا بأيّ معنى من المعاني، بل على العكس تماما خفّة ظل وحلاوة روح تجسّدت طفلا ولا أروع.
ومع آخر لمسة وضعتها الأم دائمة الإبتسام على المائدة سألت: أين بابا؟ ليدخل الأب المهيب بقامته الفارعة و خطواته المتثاقلة، فاليوم الخميس، ستّة أيام متواصلة، كل يوم عشر ساعات من حين خروجه الى حين عودته الى المنزل، يشعر بأنّه سيتداعى على نفسه، ثماني ساعات كفيلة بأن تجعل أكبر رأس كالطبل منفوخة ضاجّة بألف صوت وصوت، من هذا الزبون الى تلك، ومن تلك الى أولئك، وفي ظلّ فلسفة (الزبون ملك) عليه ـ المسكين ـ أن يتحمّل ثقالات ومماحكات الزبائن، و مما يغيظه بشكل خاص أنّ زبونا يشتري بمئة يأخذ من الوقت في غالب الأحيان كالذي يشتري بخمسة آلاف، وأحيانا يأخذ وقتا أطول، لكن ما الحيلة؟ وهو زبون والزبون ملك؟ وهل تظنّون أن أحدا يفكر لحظة في ثمن حرق أعصاب صاحبنا المسكين هذا وتوتير أعصابه؟ أبدا.
تهاوي الأب في كرسيه نافخا وثمانية عيون لأربعة أولاد ـ إبنين وابنتين ـ تتبادل نظرات خاطفة، أمّا سعيد فينقر بأنامله على شاشة محموله، ربّما يلعب وربما يبحث عن شيئ يقرؤه أو يشاهده، لكنّه على كل حال غائب عما حوله.
وتأتي كلمات الأم مصحوبة بضحكتها العذبة المملوءة طيبة وحنانا لتبدّد الحذر والتوجس:
هيّا باسم الله، وتسكب لزوجها في طبقه حساء وفي الآخر تضع أرزا ولحما، ثمّ لهذا ولتلك، وكالعادة التي لا تبديل لها ولا تحويل، هي آخر من تلتفت إليه، لم تنظر الى نفسها مرّة على أنّها عضو في الأسرة، فهي لا تستطيع أن تنظر الى نفسها الاّ على أنّها الإطار الجامع والسور الحامي
ـ كيف كان إمتحانك اليوم يا سعيد؟ أظّنه كان اليوم، أليس كذلك؟
ـ ها، نعم والدي، تسأل عن الإمتحان، لقد مرّ بسلام لا بأس
ـ أداؤك كيف كان؟ هل تتوقّع علامة جيّدة؟
ـ إن شاء الله بابا، يعني إن لم تكن الأولى فالثانية، قد راجعت إجاباتي مرتين قبل أن أسلّم ورقتي. ويتابع أكله ويطقطق في الإبان بملعقته في الطبق.. طق طق طق
جيّد ـ يقول الأب ـ وينفخ نفخة خفيفة
طق طق طق، تلحظ الأم أنّ طبق سعيد يوشك على أن يفرغ
ـ هيا حبيبي، قليلا من الأرز واللحم
ـ ماشي، شكرا ماما، لكن قليلا … طق طق طق
تبتسم مها وتحدّق بمكر الى سعيد الذي تحبّه ويحبّها كثيرا، ويجيبها بدوره بهزّ رأسه ويدلع لها لسانه بسرعة، ولما أصرّت هي على مواصلة التحديق زمّ هو شفتيه وقطب حاجبيه متسائلا أن: ماذا؟ ثم لم يملك نفسه فتبسّم وأقبل على طعامه عابثا بيسراه في محموله
ـ ماذا حصل؟ هل قرّر المدير الموافقة على العلاوة؟ سألت الأم
ـ اليوم قال المحترم كلاما تستطيعين ان تتأملي من ورائه بعض الخير، لكن مشكلة هذا المدير غموضه والتباسه الذي أتعبنا معه، فليس مستغربا أن يفاجئ الجميع غدا أو بعد غد بما يسوء ويصدم. أجاب الأب
ـ يعني أنّ مدحت تسرّع في تقديم استقالته، فلو كان صبر قليلا لكان أفضل
ـ أكيد، فأسبوع وإثنان ليسا نهاية العالم، كلّنا هناك نعتقد أنّه …
طق طق طق، ارتفع صوت الملعقة هذه المرّة دون أن يفطن سعيد لذلك
ـ تبّا! ما هذا الصوت المزعج هناك؟ سأل الأب بنفاد صبر ونزق غالب عن صوت يأتي من غرفة مجاورة
ـ عفوا بابا إنّه صوت التلفزيون، قُبيل رجوعك كنّا نتابع مباراة ال…
ـ أغلقوا هذا الزفت! كم مرّة قلت لكم أن لا تتركوه مفتوحا إذا لم يكن منكم أحد عنده
طق طق طق
ـ أوه! وأنت ما شأنك؟ كم مرّة لفتك أنت الآخر وبلطف الى أنّ هذا الصوت يتعب أعصابي، يجننّني؟ ولوّح الأب بيديه بغضب ونرفزة
ـ بابا! ألم تقل لنا قبل أيّام: إنّ الإنسان المتحضّر لا يمدّ يديه خلافا للهمجي؟
ـ وهل رأيتني مددت يديّ لأضرب بهما أحدا؟ لقد تكلّمتُ فقط. ونهض مغضبا لم يكمل طبقه وصعد الى غرفته في الطابق الثاني.
ران على المكان صمت مفاجئ ولفّه الوجوم فما تسمع من كلمة، البعض توقّف عن الأكل والبعض يتابع ببطء كأنّما يغاصب نفسه على طعام كريه.
وأمّا سعيد فوقف مصدوما وقد تضرّج وجهه شاعرا بمزيج من الأسف والإنكسار وبصوت متهدّج قال وهو يغالب دموعه:
لم أكن أقصد هذا، لا أدري لماذا أفعل هذا؟ لكنّني أفعله كثيرا.. بالأحرى دائما، وغلبته عيناه فأرسلهما على الرّغم منه.
ونهضت الأمّ تبكي تبلع ريقها وتنهنه دموعها بيدها ودارت حول المائدة لتضمّ سعيدا الى صدرها وتقبّل شعره بلطف ثم خدّه وتربت على ظهره.
ـ لا بأس حبيبي، فكلّنا نعرف أنّك لا تقصد الى إزعاج أحد، وأنت تعرف حبيبي كم هو طيب بابا وحنون، لكنّه إجهاد العمل وكثرة التفكير في الفواتير والمصاريف والديون، كان الله في عونه، وكلّه كما تعلم من أجلنا، من أجلي ومن أجلكم.
ظلّ سعيد ملتصقا بأمّه ما يتكلّم، يجهش للبكاء ثم استعبر بصوت عال، فهو صغير لا يزال، لم يكمل سنته الثامنة.
وفي الليلة التالية خلت مائدة العشاء من سعيد وشقيقته مها، أمّا هو فقد شعر بالتّعب كما أخبر أمه، فآوى الى فراشه مبكّرا، وأمّا مها فادّعت أن لا شهوة بها للطعام الليلة، والحقيقة أنّها كانت محزونة لأجل سعيد الذي تحبّه حبّا لا يضارعه حبّها لأحد سواه من سائر إخوتها.
بعد يومين يتلقّى الأب في شركته إتصالا هاتفيا يخرج على إثره من فوره فزعا معجلا الى المستشفى حيث زوجته وأولاده جميعا جلوس ساهمين مصدومين واجمين في انتظار الطبيب المسؤول أن يخرج ليطمئنهم بكلمة تنعش نفوسهم وتهدّئ من روعهم.
وما حصل هو أنّ سعيدا بينما كان يتأهّب للدخول إلى فصله المدرسي بعد انتهاء وقت الإستراحة، ترنّح وسقط مغشيّا عليه لتأتي عربة الإسعاف وتقلّه الى المشفى، هكذا أخبر الطبيب أسرة سعيد.
وقضى سعيد في المشفى شهرا الاّ يومين لم تفارقه أمّه ساعة، وكان أبوه وإخوته كلّ يوم عنده، هو بعد الفراغ من عمله وهم بعد الفراغ من مدارسهم.
ونفذ سهم القضاء ومضى سعيد سابقا أجله تاركا وراءه حطام قلوب لن يكون لها التئام أبد الدّهر.
ومضى شهر بطوله، وحول مائدة العشاء التأم أفراد الأسرة لأول مرّة بعد مصابهم في جوٍّ بالغ الكآبة، خلو من الضحكات والضجيج المعتاد الذي كان يُلحنّه سعيد كل مرة.
وفي صمت، شرع الجلوس المكلومون يزدردون طعامهم ولكأنّما هو السمّ أو العلقم، منكسّي الرؤوس شُحُب الوجوه مقرّحي الأجفان. ويضع الأب بهدوء يائس ملعقته في طبقه ويلتفت الى زوجته ونشج ثم انتحب وأعول فلم يبق أحد إلاّ بكى وارتفع صوته بالبكاء.
ولم يُحوّل الزوج بصره عن زوجته التّي نكست رأسها وقد خنقتها عبرتها وأصدر بوادر حروف كمن يريد أن يتكلّم، فرفعت بصرها إليه تتبيّن ما يقول
وبصوت واهن ما يكاد يسمع قال الأب المسكين:
لقد افتقدت … ويبكي..
لقد افتقدت … … الطقطقة ….طقطقة سعيد.
بقلم الدكتور عدنان ابراهيم
http://www.adnanibrahim.net/
http://www.adnanibrahim.net/