إن بعض الفلاسفة يعطون الأسبقية للكائن مثل هيدجر أما آخرون، فيهتمون، قبل كل شيء بالشخص من هؤلاء رونوفيي من جهة، ومونيي ولاكروا من جهة أخرى. سنعمل هنا على دراسة الإنسان، من حيث هو تأليف من الكائن والشخص، وعلى البحث في مستويات الانسجام الذي يحصل داخل هذا التأليف. وهكذا سنضع الخطط الرئيسية لفلسفة الواقع الإنساني.
لقد حاولنا، في الفصول المتقدمة أن نبرز الدور الرئيسي الذي يقوم به الكائن، فاستخلصنا أن الكائن هو الأساس الحتمي للشخص. إنه ما يصير شخصا، وما يخول الشخص الاندفاع في الصيرورة. فظهور الكائن هو نقطة البداية لتكوين الشخصية الأولى. وبتقدم السن تتحول هذه الشخصية إلى شخصيات أخرى، من مجموعها يتكون الشخص. والشخص بدوره يصبو إلى الإنسان، وقد يحقق أحيانا هذا النزوع.
إن النشاط الذي يقوم به المرء في الإبداع الفني، لأبرز مظهر لانضمام الكائن والشخص، في تأليف عميق ينزع إلى تجاوز وضعه الحالي، بغية تحقيق الإنسان. ذلك إن مجموع ال"أنا" يعمل في الخلق الفني: إن الذات تتركب من فعاليات بيولوجية وأخرى شعورية تحملها في كينونتها، وكل هذه الفعاليات، تتفتح وتنمو، داخل وسط مجتمعي، إزاء مواقف حيث تظهر الذات، باعتبارها هذه الشخصية أو تلك، لهذا، يجند الأنا كل فعالياته في استقلالها- المترابط ويتحقق، بكامله، في الفعل الخالق. فالأثر الفني نموذج الروابط بين مختلف الفعاليات التي تصدر عن الذات، وبين المظهر المحسوس لنتيجة تداخل الكائن –والشخص. يعبر الفن، في أحوال خاصة، من فترة تاريخية، عن الأوضاع العامة للإنسانية. فأساس الشخص، ليس إلا الكائن، أي المعطى الأول الذي لا يتغير ابدا، بالنسبة للنوع البشري. إذا كانت العناصر التي تدخل في التركيب الإنساني، هي هي، في كل الكائنات البشرية، وجب أن يكون الشخص هو مصدر الفروق التي تميز بين الأفراد. فأوضاع نمو تلك العناصر الإنسانية، وكثرتها، ونسبية امتزاج بعضها ببعض، تختلف من كائن لآخر تبعا لمؤثرات الوسط الخارجي لكل فرد: هنا نجد تفسيرا للاختلافات العديدة، بين أنواع السلوك والكفاءات الفنية. فيما أن النماذج والقيم تختلف من بيئة لأخرى، يتغير كذلك مفهوم الفن وتقنياته، بكيفية موازية.
في العالم الإسلامي، مثلا حيث أن هناك أوامر تحرم النحت والتصوير الفني للكائن البشري، نجد أن هذه التعابير الفنية لا تلعب أي دور في المجتمع، إلى حد أن تقاليد الفرس والبيزنطيين، في هذا الميدان، قد غمرها النسيان[1]. ولكنه، حسب القانون المعروف عند أصحاب السيكولوجيا، بقانون التعويض، برز ونما في الإسلام، فن جديد: عرف الشرق الإسلامي، خصوصا في فارس، ضروبا جديدة من الفن كالنميقة la miniature كما تكون بالمغرب والأندلس، نوع آخر في الميدان المعماري وفي الصناعات )النقش بالخط الكوفي "والتخريم" على الجبس، ونقش الخشب، والرخام، وتذهيب الجلد، وصناعة الزليج والأواني..( إن هذه المظاهر الفنية، أثرت على الذهنية الإسلامية، لجعلت المثقفين المسلمين يميلون إلى الفنون التي تعتمد على التخطيط الهندسي، وإلى الاعتناء بالأشكال والوصف، أكثر من الاعتناء بالتحليل النفساني وبعض فنون الخيال.
الفن انعكاس للشخص – الكل، في تشعبات تكوينه، وبما أن الشخص يخضع لتناقضات باطنية تترابط، وتتطور وتتوالد، وتتعقد، فإنه ينبثق من كل حالة من حالاته، أثر فني يجانسها.
إن الأنا يتمركز في الكائن، ولذا كثيرا ما يفاجئ الكائن الشخص بنواحي من السلوك ووجوه من الاختراع لم يكن يتوقعها الشخص، ولم يسبق له بها أية معرفة. فالفن يظهر كإبداع، أو ينبثق كقوة ثورية.
إن الفن )بصفته تعبيرا عن عصر من العصور، وعن جميع القوى المتضاربة التي يستمد منها المجتمع حيويته( يساهم في تكوين هذا العصر، والفنان يصارع الحتميات دائما. فآثاره تعبير عن قساوة هذا العراك من أجل الحياة، لكنها تعبر كذلك عن آمالنا، وحماسنا، وتعشقنا للحياة. فالفعاليات الفنية، إذن رابطة أساسية بين الكائنات الإنسانية، هذا بالإضافة إلى أنها جواب فعال للاستدعاء الذي توجه الموضوعات لشعورنا، واتصال متين، بين عالم الفكر وعالم المحسوسات. إنها تعبير للوسط وللزمن والقالب الضخم الذي تفرغ فيه مجموع معارف عصر ما، وعنه تنعكس درجة ثقافة هذا العصر. من هنا كان الفن أعمالا جماعية، فهو يضع طابعه على كل الفعاليات الفكرية وكل أنواع نشاط الحياة بصفة عامة[2]. فالإستيتيك، حسب العرض الذي تقدم، تصير طريقة تربوية مهمة للمواقف التي نتخذها في مواجهتنا للحياة، وسلاحا للكفاح، ووسيلة لاجتياز الكائن نحو الشخص، وتعاليا من الشخص إلى الإنسان. الإستيتيك لا تنحصر في قضايا الذوق الشخصي، بل هي أكثر اتساعا من ذلك: إنها قضية ثقافية لبيئة ما، في عصر ما، تشترك فيها المعرفة )العملية والنظرية( مع الضروب الخاصة لتفهم الأشياء، وللإحساس، والتأثر. كان القصصي الفرنسي بلزاك يطلب من الفنان الرسام أن يصور له في اللوحة الزيتية، أشخاصا بآلامهم وأحزانهم وهمومهم، بحيث يضطر المشاهد لهذا الأثر الفني أن يتأمل في حياتهم أليس لغز الفن في القوة السرية التي تخول الفنان أن يعطي للمادة الجامدة، حياة ونبلا ويجعل منها شاهدا أمينا، يقارع الزمن، معبرا عن جبروت إرادة الكائن البشري وعقله وإحساسه؟
إن التغيرات التي تعتري الفن ترجع إلى كونه يسير مع الصيرورة التاريخية، في تشخصنها، يتطور مع التاريخ على الشكل الذي يتبعه الشخص في نزوعه إلى تحقيق الإنسان. فالفن يماشى سير حياة البيئات التي يتكون فيها وتطور المادة التي تتركب منها شخصيته، وعلى المادة التي تخلد بها آثاره، وعلى الحتميات التي يتحرر من قيودها.
إن الأنا نتيجة لأوضاع تاريخية وللشعور الشخصي العام، من ذلك تتركب الشخصيات الخاصة. كما أنه، من جهة أخرى، نتيجة التركيب الفردي المعقد للكائن، فذات الفنان تندمج برمتها، كذات – كل، في الإنتاج الفني، وتتعالى بتحقيقها للشخص في ميدان طاقته الخلاقة. فالإبداع الفني يعكس عظمة طموح الشخص، وفضائله وضعفه وعجزه، وتضارباته ومشاقاته، كما يعبر عن تناقضات وصراع المصير الإنساني، بصفة عامة، وعن الأحوال الخاصة لبيئة الفنان وزمنه، فالخلق الفني سلوك يكون تارة بخضوع، وأخرى بحماس، أو سخرية أو انفعال وثورة. وأمام هذه الأنواع المختلفة للسلوك يجسم الفن مواقف عصر ما، وسلوكا لأنا، أو لجماعة ومن خلال هذا السلوك تبرز صورة عن طائفة أو طبقة من المجتمع.
كثيرا ما يتجاهل العقل الانفعالات الحقيقية لأشخاص عصر ما، أو على الأقل، يحاول إخفاءها، بتأويلات انحيازية أو ناقصة للنصوص المكتوبة، وعلى العكس من ذلك، فالإبداع الفني يدعو إلى مشاركة وجدانية مباشرة )تقع أحيانا في الشعور الغامض( فيوحي بأنواع من السلوك ويحييها من جديد رغم تعقيدها. هذا امتياز خاص بالفن. فمثلا: لو تساءلنا عن التمثال الشهير، المسمى "العبد" الذي نحته ميكيل- أنجلو، أو عن الآخر المسمى ب"الليلة" لكان جوابنا: رجل في الأغلال، وامرأة نائمة. لكن هذا الجواب لا يفي بالحقيقة، بل يقف عند مظهر سطحي: هناك المعنى الذي يرمز إليه الخلق الفني بغية إثارة تجاوب بين الذوات والموضوعات. ألا نفهم، مثلا، من العبد المكبل إنه رمز إيطاليا المعذبة، تحت نير الاستبداد، بل رمز الإنسانية جمعاء، في عصر ميكيل أنجلو؟ نجد نفس الواقعية، في التعبير، عند الفنان غويا. ففي آثاره الفنية، نشعر بالأمة الاسبانية تزار غضبا، وتتأجج ثائرة ومن وراء اسبانيا نحس بغضب وثورة مجموع الإنسانية.
إن "جمهورية" أفلاطون، أو "آراء أهل المدينة الفاضلة" للفارابي، مثلا، تتعلقان بالعقل، على الأخص، نعني أنهما نتاج صدر عن الجانب الذي هو الشخص من الأنا، لا عن الكائن. أما آثار الفنان، كفان غوغ الهولاندي، فهي تعبير، في آن واحد، عن كينونة الفنان وشخصه: فإنتاج فان غوغ، هو الرجل- فان غوغ.
أنستطيع أن نطبق هذا على إنتاج ك"حديث المنهج"، رغم أنه من عيون ما ألفته الإنسانية، فنقول إن ديكارت هو "حديث المنهج" و"حديث المنهج" هو "ديكارت"؟ إن هذا التأليف لم يكن ديكارت- الكل، فديكارت لم يكتب إلا ما أمكنه أن يكتبه، لا كل ما أراد أن يكتب. فالفرق كبير، بين ما كان يود أن يكتبه وبين ما كتبه بالفعل )نجد معلومات حول هذا في مراسلاته، وكذلك في القسم الأول من "حديث المنهج"(. وهذا ما يفسر الاحتياطات التي اتخذها، في بعض مؤلفاته، بعد أن شاهد محنة غاليلي، ومما دعاه أيضا إلى تأليف "أخلاقية مؤقتة"، وإلى تجنب بعض المسائل التي تتصل بالدين. يفسر هذا السلوك عند ديكارت بمراعاته للرقابة المجتمعية، وتغلب ناحية الشخص على ناحية الكينونة في الإنتاج الفكري، أما مع الفن فغالبا ما تطغى اندفاعات الكينونة على تدخلات الشخص.
نلمس من خلال العرض السابق، أن الخلق الفني يكون أبلغ نموذج حي للوحدة التأليفية "كائن-شخص". بما أن مفهوم "إنسان" قد صار الآن واضحا لدينا، يسهل تعريفه، ولو بكيفية تقريبية.
الإنسان هو الكائن الذي قد بلغ تشخصنه درجة من النمو تجعله، حينما يقوم بنشاط ما، يحقق نوايا ترمي إلى أبعد من الأشياء الفردية، إنه من الذات، تفهما للأوضاع وللوسائل التي يقتضيها الفعل الرامي إلى هدف معين. فالربط بين الأجزاء والمجموع، عمل يصدر عن وعي رابط، دينامي، يبرز للعالم في نفس الحين الذي يظهر فيه الكائن، ثم يفتتح وينمو مع الشخص في سيره نحو الإنسان.
كل نشاط )في مستوى الإنسان( يتجه نحو قصد يرمي إليه الوعي، وبهذا يمتاز عن الأفعال الآلية والحيوية، وكل نية ترمي إلى تحقيق قيمة )إيجابية أو سلبية(. لكن، هناك دوافع وأسباب هي التي تحدد اختيار القيمة والغاية المقصودة. وليست الدوافع والأسباب، دائما خاضعة للتعقل أو قابلة للتفسير. إني، حينما ألتزم بعمل في المستقبل، لا أقتصر ما لم يكن بعد، وإن تدخل الممكنات في حيز المفاهيم(، بل أعتمد على المجموع المؤلف من شخصي وكينونتي، أي أنني أقوم وأوفي بكل التزام بأناي – الكل.
إنني إرادة، وامتحان لبواعث ما أريد، وتقرير، وذكرى، وبيئة.. إني كل هذا، من حيث أنا شخص وفي نفس الوقت، إني فعاليات بيولوجية، وتنفيذ.. من حيث أنا كائن. وزيادة على الشخص والكائن، وابتداء من اتصالهما الوثيق، يمكنني أن أكون إنسانا، أي قيمة يستطيع أن يحققها كل أولئك الذين يصلون إلى نزع "الاقنعة" نعني شخصيات كل واحد منا، وعلى العكس من ذلك، فالذين يختارون الحياة غير الصحيحة وخداع النفس )la mauvaise foi( يجهلون إلى الأبد هذه القيمة، إنهم لن يجدوا مطلقا، من تيار الصدق وحرارته ما يكفيهم لاجتياز الشخصيات التي يلعبون دورها )في المجتمع وللمجتمع( قصد الوصول إلى الإنسان الذي يجب أن يحققوه. وبين هاتين الدرجتين المتطرفتين )درجة المقنعين، ودرجة الذين نزعوا الأقنعة( توجد درجات وسطى ثانوية.
فقولنا إن مصدر الالتزام هو الشخص، معناه أن المواقف والمشاكل التي تتولد عن تاريخنا، هي التي تملي كل التزام. فلا معنى للالتزام إلا إذا راعينا فيه، أولا، الواقع المجتمعي الذي يجعل الشخص هو ما هو: إننا نتحدث عن الالتزام، أما حقيقته، فالتاريخ مصدرها. فبتشخصن كينونتنا نندمج في التاريخ، قبل أن نتحمله، بل إن الفعل الذي تقوم به الكينونة، للاندماج في التاريخ، ينقلها من الكائن- في - حالة - الظهور إلى كائن يزداد، شيئا فشيئا، التزامه واندماجه في حركة العالم. فالكائن في التاريخ قد صار الكائن –مع- الآخرين: إنه شخصية. والشخص هو الكائن الذي له مستوى الإنسان، فهناك تجاوز لهذه الرابطة: الإنسان "كينونة" و"ملكية" في تأليف كيفي، لا تكتمل أبدا حقيقته بكيفية مطلقة.
إن الميت هو الكائن الذي يصير هذا التأليف غير ممكن بالنسبة إليه. أفكر الآن في ميت كنت أعرفه. فالمسالة هي أن نفهم كيف يسوغ لي أن أفكر في اللاموجود. ففكرة الموت تتكون وتتدخل في حيز التفكير، بصفتها تأليفا يضم حالة وجود واقعي إلى إثبات غياب تام، نهائي )غياب أصبح نعتا لما لم يبق(. إن الموت يتجلى لي كواقع، في حين أن سنده قد فقد الحياة. فالموت هو القطب السلبي للتشخصن. كلما فكرت في الميت رجعت بي الذكرى إليه، أي وضعت بيني وبينه أداة وصل )"مع" أو "و"(، أي دخلت معه في علاقة. ولكني موجود، و"هو" لم يعد، لقد كان )أو كما يقال : أصبح في خبر كان(.
أما إذا كان من أفكر فيه حيا، ولكنه متغيب فحسب، فتفكيري فيه يكون عملية من نوع آخر: إنها تفرض علي جهدا لأنفى المكان، أعني أن أنكر الكثافة المادية التي تبعدني عن هذا الكائن الغائب الذي أفكر فيه. وفي الحد الأقصى، لهذه العملية، يمكن أن تبلغ الكثافة، التي تحجزني عن المفكر فيه، من الضخامة ما يجعلها ككثافة الموت: الميت هو الكائن الذي لم يعد في أي إطار مكاني، ليس "هنا" ولا "في حيز آخر"، ليس "كائنا" في أي مكان ومع ذلك، ما أزال أتكلم عنه، كما لو.. وأتذكره، وأتخيله، وأتصوره.
وفي الواقع ماذا أتصور؟ أتصور شخصية، أي مجموعة من الروابط، ولا أتصور ذاتا، كانت لي معها علاقات، كانت تسكن معي، في المكان الفلاني، أو سافرت بصحبتي.. فأنا، حينما أتذكر هذه الشخصية إنما أبعث من منطقة النسيان، روابط جمعتني وإياها في مكان وزمن، أي تواجدت مجتمعية. إن ما يبقى من الشخصية فيما بعد الحياة، هو جوانب التدخلات المجتمعية )الآثار الفنية والصناعية والمنجزات المختلفة، وما نترك بعدنا من ذكريات حية: ما أنجبنا من بنين، وما نترك من حسرة في قلوب ذوينا وأصدقائنا، والفراغ الذي نخلفه داخل الجماعات التي كنا نشارك فيها..( فالصورة الفوتوغرافية للفقيد تعكس شخصيته. إن السقط بعد إجهاض مثلا، لا يترك أثرا، لأنه ينعدم قبل أن يتصوره المجتمع "ويشخصه"، أي قبل أن يتبناه ويشخصنه، إنه مليص، وكفى: ليست له ورقة هوية، ولا صورة فوتوغرافية، وبالتالي لا يترك سمات )ولو ضئيلة( لذاكرتنا ولتصوراتنا. ليس المليص كائنا بشريا، إنما هو نتيجة مؤلمة لعملية تحملتها امرأة: إنه "شيء ما" بقي في مستوى الأشياء.
ولنضرب مثلا آخر:
إني، حينما أفكر في ممثل كيوسف وهبي، لا أفكر في اسم معين فقط، ولكني أتصور مواهب فنان )من خلال نظرتي إلى الفن المسرحي( وأتصور كذلك، مختلف الظروف والمقومات المجتمعية التي بدونها يستحيل ليوسف وهبي أن يتصل بأفقي الخاص، بوجه من الوجوه.
فلنفرض أن يوسف وهبي ليس بفنان مشهور، هذا لا يمنعني من أن أعرفه، كما أعرف كثيرا من الناس ليسوا بفانين، ولكن، هل يتأتى في حالة هذا الفرض أن أفكر في يوسف وهبي داخل مجموعة من المفاهيم والذكريات الفنية؟ وهل يجوز لاسمه أن يستدعي ويثير هذا التفكير؟
لقد ضربت المثل بيوسف وهبي، لا لأنه شخص "من" الأشخاص، بل، لأنه "ذاك" الذي يثير اسمه، في نفسي )كلما تذكرته( التجديد في المسرح العربي المعاصر، وأتصور من جديد رواية "أبناء الشوارع" و"راسبوتين" وبعض الأفلام.. ومعنى هذا، إنني حينما أفكر في يوسف وهبي أفكر في بعض الفترات من ماضي في اتصاله بظروف جمعتني بكيفية ما بيوسف وهبي- الفنان: فقد أصبح وهبي وفنه جزءا من أجزاء أفقي الثقافي، فتصوراتي الحالية تلح في أن تتوفر هذه المجموعة من العوامل لكي تكون تصورا ليوسف وهبي، إني أتذكر من يوسف وهبي "شخصه" أي الناحية المجتمعية من هذا الرجل، لا كينونته الخام.
لا يفهم الفكر البشري الأشياء إلا ضمن علاقات بعضها ببعض وحتى فيما هو من أعماقنا، كالتفكير والذكريات، والعواطف. لابد من روابط: فالتفكير لا يكون إلا تفكيرا في.. والذكرى لا تكون إلا تذكرا ل..، والتعاطف لا يفهم إلا بين اثنين، على الأقل )ذاتين، أو ذات وموضوع(، والحب يربط محبا بمحبوب.. فنحن حينما نفكر، نفكر "مع" أو "ضد" )وفي غالب الأحوال "مع" و"ضد" في آن واحد(.ف"المحاورات" الأفلاطونية تفكير أفلاطون مع سقراط وضد السفسطائيين.
هكذا، نشاهد إن كل نفكير هو تفكير لعصر، وفي هذا العصر، ومدين له. ولو عارض المفكر كل نظيات معاصريه. فسبينوزا ومالبرانش، وإن كانا فيلسوفين أصيلين، يعدان، في نفس الوقت، من المنتسبين للمدرسة الكارتيزيانية، في اتجاهات مختلفة، فمثلا يقتبس سبينوزا من الدين فكرة خلود الحياة ويصوغها في قالب عقلي مقتبس من ديكارت. أما مالبرانش، فإنه، وإن قبل الكوجيطو )من بين ما أخذ من ديكارت( يهتم بالمعاني التي يفكر فيها، أكثر من الطريقة المتبعة في التفكير: لو أن الدائرة التي أشاهدها لم تكن أي شيء. فإني، حينما أفكر فيها أكون لا أفكر في شيء.
إن الذين يكتفون بعرض المبادئ والاتجاه لمذهب فلسفي، أو لمدرسة أدبية أو فنية لا يعرفونهما إلا تعريفا ناقصا. فالتحديد الكفيل بأن يعرفنا، معرفة تامة بذلك المذهب أو تلك المدرسة، هو كل تحديد يبرز ما يحيط بهما من مذاهب ومدارس مضادة وموازية.. أي أن كل تعريف، لنشاط ثقافي يجب أن يحتوي على عنصرين أساسيين: "ضد" و"مع".
[1]
[2] انظر كتابنا )أحرية أم تحرر؟(، الفصل المتعلق بعلم الجمال