يعد كتاب
في "معنى الحياة" للباحث المغربي "حسن الوفاء" مهتم بالبحث في
الفلسفة المعاصرة، من الكتب الراهنة التي تعالج موضوعا غاية في الاهمية وهو "
الحياة ومعناها" مستحضرا الجهد الفلسفي الذي يقدمه الفيلسوف وعالم اللاهوت
الفرنسي المعاصر "برتراند فيرجلي"([1]). ويبدو أن اختيار الكاتب
لهذا الباحث المعاصر مقصودا لغاية واضحة في ذهن الباحث وهي البحث عن معنى الحياة
في ظل التحديات الراهنة: التعصب بأشكاله المختلفة..، الاقصاء واللاتسامح والعنف
والارهاب المتزايد شرقا وغربا.
اذن،
ما معنى الحياة في ظل هذه التحديات؟ ما دور الفلسفة في الاجابة عن هذه الاشكالات الحقيقية؟
وهل توقفت الفلسفة عن طرح سؤال معنى الحياة والشر والموت والمعاناة والله؟ وهل
يمكن القول بموت الفلسفة في ظل طغيان العقل الأداتي على مفاصيل الحياة؟
وقفة مع الكتاب:
يتحرك
الباحث حسن الوفاء ضمن هذه الاشكالات وغيرها بحذر شديد، لأن ادانة العقل الفلسفي يقتضي
بالضرورة عقلا فلسفيا حذرا، نظرا لكون الحداثة لما تكتمل بعد حسب تعبير هبرماس، خاصة
وان الدعوة الى احياء واستعادة المشروع الانواري ومواصلة استثمار ممكناته وزرع
أراضيه أضحى أمرا ملحا وضروريا كي يتحقق معنى الانسان كما اشترعته الحداثة([2])، وهي دعوة الى الانخراط من
جديد في الكون ومواصلة المسير من أجل فك ألغاز هذا الوجود، إذ لا معنى للحياة في
ظل استمرار قتل الانسان ماديا ومعنويا.
وقد
عبر عن هذه الازمة بشكل واضح برتراند فيرجلي بقوله: " اننا نعيش حاليا في
مناخ ايديولوجي هو ذاك الذي يتعلق بانسان يرى العالم بدل أن يعيشه"، وهو مناخ
يرجع إلى عصر الحداثة، الذي حسم في المسألة الدينية، وأفقد العالم الحديث تجربة
دينية وأخرى أخلاقية، حتى باتت الثقافتان الحديثة والمعاصرة مأزومتين فكريا
وثقافيا بسبب هذا الفقدان. فالانسان الذي يرى العالم (الانسان النظري بتعبير نيتشه)
ابدع كثيرا في عقلنة الله؛ اذ جعله أداة لنشأة العلم والأخلاق والسياسة فلم يترك
له أية خصوصية أو حميمية أو ألوهية، وهذا ما جعل الفلسفة المعاصرة تعمق التأمل في
واقعة موت الله التي أعلنها نيتشه، ويرى فيرجلي أنها موطن الازمة الروحية التي يمر
منها العالم الغربي اليوم([3]). فما هي إذن مخرجات هذه
الازمة؟
نتج عن
هذه الازمة حسب الكاتب مظهران اثنان من مظاهر التطرف:
1-
تطرف
ديني وفيه يرى المتدينون بان الدين منبع الحياة وفيه دواء لكل داء.
2-
تطرف
لاديني وفيه يرى الملحدون أن الالحاد هو العلاج لكل الامراض المعاصرة.
والمظهران
معا لا يسهمان في الحل بقدر ما يعملان على تعميق الازمة والدفع بالحياة نحو اللامعنى
ومن ثم ازاحة الحياة التي تنطلق من ذاتها اتجاه اللانهائي، فيصنعان حياة بئيسة إما
أن ينتصر فيها الله على الانسان فيزج به في الآلام والمعاناة والشرور، واما ينتصر فيها
انسان لا يلوي على شيء الا على التمرد والسير جهة العدم([4]). ما يعني أن حاجة الانسان
الى المقدس أبدية ولا يمكن الاستغناء عنه بل الحياة لا تطاق بدونه، وبنفس الدرجة
يمكن القول كذلك بان الحياة لا تطاق عندما يبتلع المقدس كل ما هو دنوي وتصبح
الحياة عبارة عن شعارات دينية جامدة.
من هنا
يمكن القول بأن جمالية الدين تتجلى عندما يحول الانسان تدينه حبا وعطاء ودافعا نحو
الحياة بدل الموت. والعلم أشبه بالدين في هذه المسألة فجمالية العقل العلمي تتجلى في
التنازل عن جبروته والتأسيس لعالم يتسع للجميع. عالم يتعايش فيه الانساني والالهي معا.
وبتعبير آخر فالواقع reality لا
يمكن الوصول اليه من مصدر واحد من مصادر المعرفة، بل لا بد من تمكين المصادر
الاخرى وتفعيلها للوصول الى الفهم الرشيد لمعنى الحياة.
إن
التفكير في معنى الحياة يقتضي فلسفة حقيقية للانعطاف تدخل بعد الله كبعد أساسي ضمن
ممكنات التفكير المتاحة. "إنها فلسفة تنعطف جهة المقام الحميمي الذي صنع وجهة
الحداثة لإعادة نسج خيوطها، وجهة العلاقة بين الحداثة والدين، وبين الانسان والله،
ليكون الانعطاف بذلك ضربا أصيلا من التفلسف لا يفيد التوجه نحو ماض ولى، ولا يعني
نمطا من الدفاع المحموم عن عقيدة دينية معينة، ولا يعني مهاجمة كلبية للعقلانية
وللحداثة بقدر ما يعني Retournement أي؛
نظر في الجهة الاخرى لهذه الـ Je suis التي
هي صلب الحداثة"([5]).
يأتي هذا الفهم حسب الباحث ضداً على "العدمية التي
باتت تجتاح العالم المعاصر، وهي علامة على الأفول الروحي للإنسانية الغربية التي
أبدعت الميتافيزيقا وأهدتها لمجموع البشرية، إذ المعتبر في السؤال عن معنى الحياة
هو تماسّ معين بين الإنساني والالهي، والتّماس هذا لا يفكر فيه إلا عندما تغدو
الحياة غارقة في الأزمة، التي تظهر في عجز حقيقي أمام أسئلة الشر والمعاناة والموت
والعنف والإرهاب"([6]). وهي عدمية مزدوجة يميناً
ويساراً، شرقاً وغرباً، هي في نهاية المطاف ضد إنسانية الانسان. وعليه فالكاتب
يدعو - من خلال استحضار فلسفة برتراند فيرجلي – إلى العودة مرة أخرى إلى الانسان
والانخراط من جديد في الكون، وهي دعوة إلى الانتقال من "الانسان النظري"
(نيتشه) إلى الانسان النابض بالحياة. أي "انسان حي"، انسان يفكر يتألم
يفرح يعاني يشقى يسعد يموت...، كل ذلك من أجل أن يحيا.
ما دفع
الباحث "حسن الوفاء" الى الانشغال بهكذا إشكال هو إرادته "لفهم
الأفق الذي سار فيه جزء من الفكر الفلسفي اليوم لمّا بدأت رياح العصر تهبّ بمظاهر
طافحة لبعض من التجارب الدينية عندنا، حتى باتت الأصوات المجروحة في الرقعة
الثقافية التي ننتمي إليها تستعيد كائنات مضى زمنها فتريد لها أن تحيى بين
ظهرانينا قسراً وعنوة، فصارت تخرجها تخريجاً سمجاً بات مدعاة للدهشة
الفلسفية"([7]).
والكتاب
المقروء عن مطبعة سليكي أخوين – طنجة، طبعة أولى يونيو 2018، صفحات الكتاب 129،
قسمه الباحث إلى فصلين اثنين، الأول عالج فيه تجربة المعاناة من حيث إنها
مساءلة جذرية للمعنى، والثاني عالج فيه تجربتي الموت والشر بوسمهما
الكينونة التي هي أرض مشتركة بين الله والانسان، والتي هي المقام الأصيل للمعنى.
ثم ختم
الباحث دراسته بخلاصة أجمل فيها القول لما توصل اليه من نتائج نذكر منها([8]):
-
إن التفكير
صحبة برتراند فيرجلي، يقود حسب الكاتب إلى النظر في ما يَفْتِق العلاقة التي
للإنسان مع الحياة، وفي ما يحضر كتجارب-حدود تصطدم بها الحياة التي لا تقبل
الاختزال.
-
ثم، إن
التفلسف حول هذه التجارب محاولة لترك الآخر الأقصى (الله) – الذي هو مكبوت في أنا
الحداثة – يفصح عن نفسه ويتكلم من خلال ما سماه فيرجلي عين الله التي ننظر بها إلى المعاناة
والموت والشر فتجعلنا نستمر رغم كل شيء ونتفوق على مقاومة الشر بالشر أو الانتقام
الذي هو المقاومة التي لا تعني شيئاً آخر غير الانهزام أمام الشر والضعف، كما تتيح
لنا هذه العين أن نتفوق على الموت، فلا ننظر من خلاله إلى الحياة فنصنع قيماً تريد
الهروب منه وتتحاشاه، بل نواجه الموت ونحمله، وننفتح عليه بشجاعة، فيكون الموت
بذلك عبوراً من الحياة إلى حياة أخرى، وليس نهاية.
-
إن
إنسانية اليوم لا يمكن أن تمرّ إلى اكتشاف العين الإلهية المطمورة في أناها وفي
حميميتها إلا إذا مرت من الكينونة التي تأسرها إلى الآخر الكلي (الله) عبر فعلين
أصيلين هما: الإيمان والانحسار.
-
إن
اللانهائي حسب برتراند فيرجلي هو ما يجعل العلاقة مع الحياة ممكنة، ومن هنا ينكشف
المعنى ليس من حيث إنه سابق على الانسان أو آت منه، بل من حيث هو الحدث الخارق
الذي ينجم من اللقاء المدهش بين الانسان والحياة، بين الله والانسان، بين المتعالي
والمحايث، ومن حيث هو إيمان بقوة الحياة المنفتحة على ما يجاورها، وحنين إلى هذا
المسمى حياة "الحياة" (الله).
-
يخلص
الكاتب إلى أن برتراند فيرجلي يحارب في اتجاهين من أجل إعطاء معنى للحياة؛ أولا
هدم أسس النزعة الالحادية المتطرفة، التي تريد تأسيس دين وروحانية دون إله. وثانيا
هدم أسس النزعة الدينية المتطرفة التي تريد تأسيس دين دون إنسان.
-
وللخروج
من الأفق المسدود والميت يمكن للحياة التي هي نحن ونحن إياها أن تجد معناها في
إعادة ربط العلاقة بها عبر نضج الانسان وانعتاقه من الأب المدمّر ومن الطفل
المدمّر وذلك من خلال:
أ-
اعتبار
الحياة كينونة قائمة بذاتها تحضر كلقاء بين الله والانسان داخل عمق عبارة (je suis).
ب-
استلهام عين الله التي يتمكّن
الإنسان بواسطتها من النظر إلى شروطه الإنسانية.
ج-
الانخراط
في الحياة بدل التفرج عليها سواء بتعقيلها موضوعيا (علميا) أو بالتباكي عليها
(ذاتيا).
أخيرا نقول: إن الكتاب المقروء هذا، مهم
في بابه ولا غنى للباحث في الفلسفة المعاصرة عنه، وهذه الوقفة لا تغني الباحث عن
الرجوع الى الكتاب الأصل للغوص في ثناياه وكشف خباياه، فالقراءة أولا وأخيرا قصد
القارئ منها، فكل قارئ يبحث معنى ما يريده أو إجابة عن اشكال يؤرقه أو هواية
تجترّه وتدفعه نحو الكتاب، أو بحثا عن علاج يفتقده.
سعيد
السلماني/ أستاذ الفلسفة بالثانوية العامة
[1]
برتراند فيرجلي Bertrand vergely ، فيلسوف معاصر وعالم لاهوت فرنسي،
أستاذ العلوم السياسية بالمؤسسة الثيولوجية الأرثودوكسية Saint – Serge. لخص سنة 2011 منهجه بقوله: لقد
أنجزت أعمالاً تتوزّعها ثلاث وجهات:
- نشر الفلسفة وتاريخها
وتبسيطها.
– تأملات حول "التجارب
– الحدود" الخاصة
بالموت والمعاناة والشر.
– أعمال حول السعادة
والايمان. (حسن الوفاء).