تمهيد
من المقرر عند علماء الإسلام قديمًا وحديثًا أن الدين الإسلامي الحنيف جاء لحفظ الضرورات الخمس: الدين والنفس والعقل والعرض والمال. وبناء على هذه الضرورات بنيت الأحكام والأوامر، وحرّم بالمقابل أي نوع من أنواع الاعتداء عليها، من هذا المنطلق قد تقرر في الفكر الإسلامي أن الدين الإسلامي جاء لحفظ الأمن والدفاع عنه ورعايته، وما فرضت الحدود والعقوبات إلا من أجل هذه الغاية.
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نلاحظ في السنوات الأخيرة صعودًا كبيرًا في جماعات العنف الإرهابي التي تصطبغ بصبغة الإسلام وبمفاهيمه…؟ وما المقصود بظاهرة العنف الارهابي؟ وما منطلقاتها؟ وكيف ظهرت وتطورت؟ وما السبيل إلى الخروج من هذا الواقع العنيف إلى واقع أرحب يسمح للإنسان بالعيش بسلام وأمن وأمان؟ ثم هل ظاهرة العنف الإرهابي خاصة بالإنسان المسلم فقط، أم أنها ظاهرة كونية تبرز كلما توفرت الشروط لذلك؟
في معنى العنف الارهابي
يعتبر العنف (violence)ممارسة إنسانية قديمة متجددة، تعددت معانيه واختلفت تعاريفه باختلاف الرؤى والمقاربات المنهجية المتعددة. فقد عرّف المعجم النقدي لعلم الاجتماع العنف (violence) بأنه “سلوك لا عقلاني، يعود أصله إلى مركّب من الميول والمصالح المتخاصمة التي تسبب إلى حد ما انحلال المجموعة نفسها، وأنه في كثير من الحالات سلوك قمعي ومتلازم مع عملية اختلال النظام”، والعنف حسب تعبير “أمارتيا سن”: وهو الشكل الأكثر وضوحًا لعدم الاحترام، وهو مؤشر مجتمعي بامتياز بأن الاحترام والتفاهم قد تحطّما”. ويتخذ العنف أشكالاً متعددة، ويمكن استجماعها في شكلين: عنف مادي (جسدي) وعنف رمزي (نفسي). وفي كلتا الحالتين فالأمر يتعلق بشخص الانسان؛ أي الهجوم على إنسانية الانسان.
منطلقات العنف
يعتقد علماء الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي أن الذكريات المؤلمة والمعاناة والقلق والأمراض النفسية المختلفة، قد تدفع الانسان إلى العنف أحيانًا، وقد يرتبط فعل العنف بمنظومة القيم الاجتماعية والدينية والأخلاقية في تحقيق التوازن الاجتماعي والنفسي. كذلك قد يرتبط بانعدام الحرية والاستقلالية الفردية والاضطهاد السياسي والاجتماعي والكبت الجنسي واستعمال المخدرات وغيرها التي تقود الى الانحرافات في السلوك البشري.
ورغم الفظاعة التي قد تحدثها أنواع العنف المشار إليها، إلا أنه يجب تمييزها عن “العنف الإرهابي”. فضحايا الهجمات الإرهابية يمكن أن يكونوا من مجتمع الإرهابيين أنفسهم، بينما الهدف هو السلطة، وتكسير القواعد الإنسانية الأساسية في السلوك بطريقة مقصودة. وقد تكون الدوافع معقدة: كأن يحاول القائم بالعنف الإرهابي فرض مطالب، والتأثير في الرأي العام، أو جذب الانتباه إلى قضيته، ويمكن أن يقوم بذلك نتيجة اليأس. لكن في بعض الحالات، يوجد عامل رمزي أقوى بكثير لا يمكن إنكاره: فالمجموعة الإرهابية ضعيفة التنظيم، تروم – علاوة على جذب الانتباه- إلى الظلم الواقع عليهم، بأن تثير السلطات “القوية” عبر ردة فعل مبالغ فيها، الأمر الذي سيدمر مكانتها وسلطتها المعنوية على الصعيدين المحلي والدولي.
وبناء عليه، فإن العنف الارهابي هو عنف منظم يهدف إلى إحداث الفزع في صفوف الآمنين، منطلقا من مقولة ماكيافيلي “الغاية تبرر الوسيلة”، فالغاية من الفعل الإرهابي هو إحداث الفزع ومحاولة إرباك الدولة. فالإرهاب كفعل عنيف، هو تأكيد لم ينتج عن غريزة عدوانية محضة، فلو كان الأمر كذلك لسهلت معالجته، لكن المسألة أعمق من ذلك، فهناك عوامل ودوافع متعددة؛ اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية ودينية وأخلاقية..، يجب دراستها وتفكيكها وتحليلها ونقدها بمداخل عدة أملا في الوصول الى حل ممكن.
إن السؤال ما هو الارهاب بالضبط؟ سيظل مطروحا نظرا لتداخل المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخلافات الايديولوجية. لكن، بوسعنا الان – بعدما لاحت في الأفق خريطة الارهاب العالمي والتداخل القائم بين الارهاب والسلطة والمال – أن نخط دباجة أولية تسهم في تحديده فنقول: إن الارهاب ثقافة ومنهج في القتل، يرمي إلى إثارة الفزع الأكبر في المجتمع وتوريط الدولة ما أمكن، فالإرهاب بهذا المعنى يسعى إلى إظهار أقوى الأسلحة عديمة الجدوى ولا قيمة لها في أيدي صناع القرار السياسي والعسكري.
فنحن إذن، أمام عنف متمركز حول ذاته، وهذا ما أطلقنا عليه بـ”العنف الارهابي” بدل “العنف” او “الارهاب”. فالعنف لفظ عام يشمل كل أشكال العنف بما في ذلك الارهاب بأشكاله المختلفة، أما الارهاب فهو مفهوم ملغم ولم يتفق على تحديده سياسيا وفكريا، وأصبح يستخدم لأغراض دنيئة تغذي العنف بدل القضاء عليه.
من هنا فالعنف الإرهابي هو كل عمل عنف مسلح يرتكب بغرض سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ايديولوجي أو ديني ينتهك المبادئ العامة لحقوق الانسان، فهو إذن، عنف إرهابي موجه ومؤطر ثقافيًّا ومتمركز ذاتيًّا ومنغلق هوياتيًّا.
ورغم أن ظاهرة العنف الإرهابي قديمة قدم الإنسان إلا أن ثمة نقص ملموس في المصنفات التاريخية الرصينة التي ترجع بها إلى جذورها وبداياتها الأولى في الأزمنة المعاصرة، وهذا الأمر جعل الظاهرة أكثر تعقيدًا وسهل الطريق أمام الحاقدين وبائعي الوهم لاستغلال البسطاء في نشر العنف على نطاق واسع ولهم في ذلك مآرب أخرى.
كما أن الاهتمام العلمي والنقاش الفكري الواسع الذي حظي به مفهوم الإرهاب لم يحدده بشكل دقيق، ونعتقد بأن الأمر سيظل هكذا قياسًا على كل الظواهر الإنسانية التي لا يمكن تحديدها تحديدًا دقيقًا نظرًا لخصوصية الظاهرة الإنسانية، لأن الفاعل المركزي فيها هو الإنسان. وبما أن هذا الأخير كائن مركب فمقاربة ظاهرة العنف الإرهابي ينبغي أن تكون بمقاربة منهجية مركبة تتجاوز التخصصات والتخوم الفاصلة بين العلوم والمعارف، وخصوصًا في العلوم الإنسانية إذ يصعب فصل الجوانب الاجتماعية عن مكوناتها الثقافية، فيما يتعذر فصل هذين المستويين عن المستوى السياسي، فضلاً عن عناصر ومكونات اقتصادية تارة وتنموية في طور ثالث، ما يعني ضرورة الإلمام بهذه الوجوه المتفاعلة والمتعددة لظاهرة العنف الإرهابي.
وفي حديثنا عن الإرهاب ينبغي أن نميز تمييزًا ضروريًّا بين العنف الإرهابي والمقاومة، فالعنف الإرهابي عنف منظم يهدف إلى تحقيق أهداف محددة وتقوم به منظمات ايديولوجبية مختلفة، ويستخدم أدوات وأساليب متعددة لتحقيق غاياته، دون الأخذ بعين الاعتبار القواعد والمعايير الأخلاقية. أما المقاومة المشروعة فموجه نحو حق أخلاقي وهو تحرير الوطن من الاحتلال أو الدفاع عن النفس، وهو رد فعل على أعمال عنف تقوم بها منظمة سياسية أو دولة ضد دولة معتدية.
وعند الكلام عن ظاهرة العنف الإرهابي ينبغي التمييز بين حديثها وقديمها، وهذا يحتم علينا أن نولي اهتمًاما واضحًا لكيفية تطور الظاهرة وتحولها من السياق المحلي أو الاقليمي المحدد قديمًا، إلى المنحى التصاعدي الذي طرأ على الظاهرة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، بفضل تظافر عوامل سياسية واقتصادية وتقنية، حتى بتنا نتحدث عن “عولمة العنف الإرهابي”.
وبما أن ظاهرة العنف الإرهابي كباقي الظواهر الاجتماعية فإن التركيز ينبغي أن ينصب على ثقافة العنف الإرهابي وكيف تتشكل وتتطور، ومن ثم فإن علاج الظاهرة ينبغي أن يتجه صوب العوامل الحقيقية التي تساهم في استفحالها، من هنا أهمية التركيز على دراسة ظاهرة العنف الإرهابي في أجزائها المتعددة؛ كالتقنية والارهاب، العولمة والارهاب، الاستعمار والارهاب، الاقتصاد والارهاب، الدين والارهاب، التدخل الخارجي والارهاب، الاستبداد والارهاب، الظلم والارهاب، الهوية والارهاب،…الخ.
وأخيرًا ينبغي إعادة النظر في المقاربة العسكرية التي لم تأت أكلها في القضاء على هذا الوباء، ذلك أن “العنف الذي ترتكبه الجماعات بتحريض ممنهج لا يشكل على وجه الحصر تحديا عسكريا، ولا هو كذلك في المقام الأول”. والأمر لا يقتضي استبعادها إطلاقًا ولكن إن استدعت الضرورة التدخل العسكري فليكن الأمر مدروسًا بشكل جيد ومصحوب بمبادرات مدنية فعّالة.
ليس هناك كائن إنساني لا يعي خطورة العنف الإرهابي، وتهديده للإنسانية جمعاء. ومهما حاول الإنسان أن يسبغ المشروعية والعقلانية على أفعاله التدميرية والتخريبية، فإنه لن يقنع في الأخير سوى ذاته. والغريب في الأمر، أنه في الوقت الذي كان جديرا بالعلم أن يسير في اتجاه خدمة الإنسان، ها نحن اليوم نراه يسخّر من أجل تطوير وسائل وأدوات لممارسة العنف في أقصى صوره. مما يدفعنا إلى التساؤل حول المغزى الحقيقي من وجود الإنسان في هذا الكون؟ ثم أليس العنف الإرهابي في النهاية دليلاً على عدم فهم الإنسان لحتمية الاجتماع البشري والعيش معًا في هذا الكون الذي يسَع للجميع؟