الحديث في هذه العجالة سينصب حول مفكر بارز زاوج بين الفكر الاقتصادي والفكر الفلسفي وهو المفكر الهندي أمارتيا كومار سن، الذي لم يكتشف عربيا إلا في السنوات الأخيرة وهو المنافح بشراسة عن العالم الانسان وعن قضاياه وكتاباته دليل على ذلك، حديثنا هنا حول فلسفته في علاج مشكلات الانسان، فمن هو أمارتيا سن Amartya K Sen؟
أمارتيا كومار سن ( Amartya Kumar Sen) فيلسوف واقتصادي هندي، ولد في دكا عاصمة بن جلاديش حاليا، سنة 1933م. حاصل على جائزة نوبل سنة 1998م لمساهماته في اقتصاديات الرفاه، وعمله على صعيد نظرية التنمية البشرية، ووسائل محاربة الفقر والحرية السياسية. وتقديراَ لإسهاماته القيمة في إطار إعادة التفكير في القضايا الاقتصادية من منظور ثقافي. وقد استطاع أن يقدم مفاتيح جديدة لفهم إشكالات شائكة حول تنمية العالم الثالث ومحاربة الفقر والأمية، وله العديد من الأعمال الفكرية في التنمية والاقتصاد والفلسفة السياسية المعاصرة، وقد ترجمت أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة، نذكر من بينها التي ترجمت الى العربية؛ كتاب “فكرة العدالة” (The Idea of Justice)، وكتاب “التنمية حرية”(Developmet as freedom)، ثم كتاب “الهوية والعنف”(Identity and violence)، وترجم المركز العربي مؤخرا كتابين “السلام والمجتمع الديموقراطي” “والعقلانية والحرية” وعن هيأة البحرين للثقافة والآثار كتاب “الهندي المولع بالحجاج، كتابات عن تاريخ الهند وهويتها وثقافتها” وأعمال كثيرة لم تترجم الى العربية، وهي كلها تعالج قضايا إنسانية مشتركة، كـ”العدالة والحرية والمساواة والهوية والعنف والفقر”[1].
ولا يخفى على أحد أن هذه الإشكالات أصبحت تؤرق الإنسان المعاصر، بالإضافة إلى الأزمات الكثيرة الناتجة عن استخدام التقنية نذكر من بينها؛ الأزمة الإيكولوجيا، انتشار الأسلحة الفتاكة والأسلحة النووية وغيرها من أنواع الأسلحة، بالإضافة إلى المتاجرة بها. وهذا من شأنه أن يعمق الإحساس بالتفرد والتقوقع على الذات ورفض الآخر، مما يؤدي إلى تصاعد العنف بشكل ملفت للانتباه، وما يحدث في العالم من تفجيرات مروعة، وقتل الأبرياء يرجع في شق منه إلى هذا السبب.
وفي هذا السياق المشحون بإشكالات سياسية واجتماعية، انخرط أمارتيا سن في هذا النقاش الكوني الذي سطع بشكل قوي عقب الحادي عشر من سبتمبر 2011. متسائلا عن أسباب العنف الذي يطبع العالم المعاصر. فقد وجه نقده اللاذع الى النظريات الفكرية الميالة إلى الانغلاق والتقوقع حول الهوية الانعزالية، ووقوفه مع العديد من المفاهيم التي أصبحت مألوفة في الأوساط الفكرية، من قبيل نظرية الصراع أو الصدام الحضاري، ونهاية التاريخ، ونقاشات نقدية حول مسألة التعدد الثقافي، والعولمة، والإرهاب. ومن خلال نقده لهذه المفاهيم التي تعوَّد الفكر البشري على سماعها دون إعمال النظر فيها، يحاول أن يطرح أسئلة عميقة على الضمير العالمي من قبيل؛ هل من العدل أن يموت آلاف الناس في آسيا وإفريقيا من الجوع والأمراض، ولا ينظر لهذا على أنه جريمة كبرى في حق الإنسانية؟ كيف يمكن تفسير استمرارية العنف وتناميه بشكل مهول في عالمنا المعاصر؟ هل بالفعل هناك “صدام الحضارات” أم هو صراع مفتعل؟ ألا يمكن القول بأن إساءة الوصف، وخطأ التصور يمكن أن يجعل العالم أكثر هشاشة مما هو بالفعل؟ وهل نحن حقاً نعيش في عالم بلا أخلاق.
إن الضمير العالمي اليوم حسب أمارتيا سن يجد له مخرجاً كل ما أراد ذلك حول كثير من المآسي في العالم. ويجب أن يعلم الضمير العالمي أنه يستطيع أن يقدم الحلول الممكنة والحقيقية لمشاكل الإنسان، وهي حلول أسهل بكثير من الحلول العسكرية التي يتم اللجوء إليها كثيرا. ولقد تبين له من خلال الأبحاث التي قام بها في الهند وبنجلاديش وغيرها، أن مساعدات مالية ونظرية بسيطة للناس، يمكن أن تساعد في حل كثير من الأزمات القاتلة التي يعيشون فيها.
وخلاصته هذه، أكدت إيمانه العميق بأن العمل الإنساني وليس العسكري هو الحل الممكن في حل أزمات العالم، من خلال إعطاء الفاعلية لمفاهيم نظرية التي أصبحت تؤطر الفعل السياسي والاجتماعي من قبيل: العدالة والهوية والتنمية والحرية والعقل والصراع وغيرها من المفاهيم التي تم استغلالها من أجل السيطرة على العالم اقتصاديا وسياسيا. ومن ثم أصبح لزاماً على المفكرين اليوم أن ينتبهوا الى الخلط المفاهيمي والتشويش على المرامي الحقيقية التي تحملها.
ودراسات أمارتيا سن في الفلسفة السياسية تندرج في هذا الإطار، من خلال قراءة جديدة مبصومة بالطابع العقلاني والأخلاقي ذو توجُّه ليبرالي، هدفها الإنسان، كيف ما كان شكله ولونه، فهي قراءة موجَّهة للجميع من أجل إحلال السلم والكرامة والحرية والمساواة. وهو من خلال هذا يريد أن يشكل ضميراً عالمياً جديداً يشعر بالمسؤولية تجاه مظاهر الظلم بكافة مستوياته. كما أنه يريد القول؛ بأننا في استطاعتنا عمل الكثير، وما علينا فعله فقط، هو أن نفتح عقولنا وقلوبنا أكثر، ونحاول أن نرى العالم من جديد ونؤمن بأنفسنا، وإعطاء الأهمية لتفعيل قيم كونية أساسية مثل الديمقراطية والحرية والكرامة والهوية المتحررة من القيود الجماعية، وترك الخيار للأفراد في تحديد هوياتهم. وعليه، فإنه من خلال هذا يريد أن يساهم في حل أزمة المفاهيم الحالية، التي تنخر الجسم الفكري العالمي اليوم، ويعزو اليها الكثير من أعمال العنف التي تحدث في عالم اليوم والأمس.
ومن خلال قراءتنا المتأنية في بعض من أعماله، وقفنا على هذا النهج الذي التزمه في تفكيره، وهو “ثمرة استيعابه لعلوم الغرب، وثمرة حياته ومعايشته للهند وطنه، واحتكاكه بمشكلات الصراع الطائفي والثقافات الاجتماعية والحرمان من فهم علمي عقلاني للقضايا، والتمييز بين الجنسين، والفهم ضيق الأفق لمعنى الهوية وما تسبب عنه من صراعات”[2]. إن هذا النهج الذي التزمه أمارتيا سن في خطه الفكري، جعله من أكثر الباحثين التزاما بالإنسان وبقضاياه المشتركة. فقد تجده أحيانا هندياً أو بوذياً وأخرى غربياً أو مسلماً ومناصرا لقضايا الإنسان ومدافعا عن الظلم الاجتماعي كيف ما كان شكله. إذ يقول: “لا توجد أولويات شرقية محضة، ولا حتى أولويات غربية خالصة، لأنه يمكن العثور في تاريخ هذه البلدان على آراء ذات مناحي مختلفة ومتعددة جداً. ثمة فوارق كثيرة في الغرب كما في الشرق، في التفكير، وسيكون من الوَهْم تماما التفكير في غرب واحد موحد يواجه الأولويات “الشرقية المحضة”. ففي التاريخ الفكري للهند وعدد من المجتمعات اللاغربية الأخرى، تقاليد عظيمة للجدل العقلي الذي لا يعتمد على الدين والمعتقدات اللاعقلية. ويبدو لي أن حصر الاهتمام بشكل تام تقريبا بالأدبيات الغربية، يجعل ممارسة الفلسفة السياسية عموما محدودة وضيّقة الأفق نوعاً ما. ويعزو هذا، إلى قلة إلمام المفكرين الأوربيين (والمفكرين في العالم الحديث كله في الحقيقة بسبب الهيمنة العالمية للتعليم الأوربي اليوم) بالأدبيات غير الأوربية. ومن الممكن مع انفتاح هؤلاء على خطابات أخرى، وعظمة التفكير العقلي لدى المجتمعات المغايرة، لمن شأنه أن يوسّع النقاشات الجارية حاليا في الأدبيات الغربية. غير أن هذا الخط الفكري الذي يختار هذا المسار، غالبا ما لا يُلتفَت إليه، أو يهمش في التقاليد المهيمنة للخطاب الغربي المعاصر[3].
إن ما يتميز به أمارتيا سن في نهجه الفكري هو رؤيته الموسوعية للموضوع، ويتمثل هذا في جمعه بين الاقتصاد والفلسفة والعلوم الاجتماعية والتحليل السياسي، وذلك تماشيا مع مبدأ لم يحد عنه منذ البداية. ومفاده أن “الاقتصاد علم أخلاقي”، وأن مسيرة الحرية بالنسبة لأي شعب ولأي فرد تبدأ دائماً من “التنمية”. وبهذا المعنى يرى أن “الآليات الاقتصادية” هي ذات وظيفة “أخلاقية” و”إنسانية” و”اجتماعية”. بالإضافة إلى تأكيده على الجوانب العملية في السياسة، فإن كان يؤكد على أهمية الديمقراطية في الممارسة السياسية، فإنه يرى ضرورة تأمين الشروط التي تسمح بممارستها بطريقة واعية. ومعنى ذلك، أنه إن كان من المهم الحصول على حق الاقتراع، فإن الأمر الأساسي هو امتلاك التربية الضرورية من أجل فهم الخيارات المطروحة على الناخبين، ولكن أيضا وأساسا امتلاك وسائل النقل الضرورية لتأمين وصول هؤلاء الناخبين إلى صناديق الاقتراع.
بالإضافة إلى ذلك فإن أمارتيا سن، يعد من المفكرين الملتزمين والمهتمين بالواقع الاجتماعي بشكل كبير، كما أنه منخرط بقوة في النقاش العمومي الدائر حول مسألة العدالة وقضايا أخرى ذات صلة بالمجتمع، كمسألة الهوية والصراع والعنف والعدالة الاجتماعية[4].
[1] أمارتيا صن،الهوية والعنف، وهم المصير الحتمي، ترجمة، سحر توفيق، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت، عدد،352 ، 2008.ص، 207.
[2] أمارتيا سن، التنمية حرية، ترجمة، شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت، عدد،303 ، 2004.ص، 12.
[3] أمارتيا صن، فكرة العدالة، ترجمة، مازن جندلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط 1 ، 2010 ، ص ، 18.
[4] « Amartya sen contre l’enferment identitaire ». par martin provencher , spirale : Arts, letters, sciences humanes. N° 222 , 2008, P : 19-20.