في رحاب العلوم الانسانية  في رحاب العلوم الانسانية
random
جاري التحميل ...

دروس مادة الفلسفة لتلاميذ السنة الثانية باكالوريا/ ذة/ سميرة بورزيق

دروس مادة الفلسفة لتلاميذ السنة الثانية باكالوريا/ ذة/ سميرة بورزيق

         مجزوءة الوضع البشري:

تقديم:

ان الحديث عن الوضع البشري معناه استحضار وضع يختص بالإنسان وحده دون غيره من الكائنات. فاستحضار مفهوم الوضع البشري يحيلنا إلى الانفتاح على الوضعيات الوجودية التي يعرفها الإنسان و يعيشها و لا يستطيع الانفلات منها، و هي وضعيات / حدود غير متناهية تؤطر هذا الكائن و ترسم الإمكانات التي يجب عليه أن يسير وفقها.و هي حدود كثيرة ( سيكولوجية/ اجتماعية/ علائقية/ تاريخية/زمنية/ وجودية سياسية).

في هذه المجزوءة سنفكر في بعضها فقط و سنعمل على تحديد الوضع البشري من خلال ثلاث أبعاد أساسية: البعد الوجودي/ البعد ألعلائقي/ البعد التاريخي أو الزمني.

يتميز الوضع البشري إذن بالازدواجية: فالإنسان يوجد أولا في العالم, وهذا ماعبرت عنه الوجودية حينما أعلنت الإنسان ككائن يلقى أولا في العالم، ثم ككائن يعيش مع الآخرين و يدخل معهم في علاقات، ويخضع لتأطير المجتمع الذي ينتمي إليه...و بالتالي فوجود الإنسان يتحقق و يتحدد من خلال بعدين أساسيان:البعد الموضوعي : بمعنى أن الوضع البشري هو ما يشكل الكوني في الإنسان بينما البعد الذاتي فيتمثل في كون الإنسان بوصفه شخصا يبقى مشروعا كما ذكر سارتر يختار ما يريد لأنه كائن أخلاقي يحيى مع الغير وله تاريخ، بل هو الكائن التاريخي بامتياز بحيث يصبح صانع- له.

سنحاول في هذه المجزوءة التفكير في هذه الأبعاد الثلاثة التي تحدد الوجود الإنساني من خلال المفاهيم التالية:

الشخص:

- الشخص و الهوية. - قيمة الشخص. - الشخص بين الضرورة و الحرية.

الغير: 

 - وجود الغير. - معرفة الغير. -  العلاقة مع الغير .

التاريخ:

- المعرفة التاريخية. -  التاريخ و فكرة التقدم. - دور الانسان في التاريخ.

مفهوم الشخص:

تقديم:

اهتمت الفلسفة بالإنسان منذ نشأتها. هذا الاهتمام سيتجلى بأشكال مختلفة في نصوص الفلاسفة حول قضايا متعلقة بمعرفة جوانب أساسية للوضع البشري. هذا الاهتمام سيزيد خلال القرن 19 و 20م لحظة ظهور العلوم الإنسانية التي أبدعت طرقا جديدة في دراسة الإنسان، وتوصلت إلى حقائق جديدة في شخصيته. رغم هذه التحولات في مقاربة الوضع البشري، فان الإشكالات الفلسفية تظل حاضرة عند كل محاولة للتفكير في هذا الكائن المجهول دوما. بما ان تناول الكثير من القضايا المتعلقة بسؤال الشخص ، يبقى صعبا، فإننا سنكتفي في هذا الدرس بالمحاور الآتية:

المحور الأول: الشخص و الهوية.

المحور الثاني: الشخص بوصفه قيمة.

المحور الثالث: الشخص بين الضرورة و الحرية.

المـــــــــحـــور الأول: الشخص والهوية:

إشكال المحور: سنحاول في هذا المحور ان نجيب على الإشكالات الآتية: هل تكمن هوية الشخص في وحدته وتطابقه مع ذاته بحيث يبقى هو هو، أم تقوم على التعدد المتوتر والصراع الدينامكي؟ سنستحضر قي هذا مجموعة من المواقف والاطروحات حول هوية الشخص ...

1- موقف ديكارت:

سيتساءل ديكارت حول الأنا ؟ وسيكون جوابه بمثابة تعريف للإنسان باعتباره شيئا مفكرا ، لكن أب الفلسفة الحديثة سيعاود طرح السؤال عن ماهذا الشيء المفكر؟ ليدرك فيما بعد أن التفكير هو صفة من صفات النفس التي تتجلى عبر مجموعة من الأفعال الذهنية يقول ديكارت " و ما الشيء المفكر؟ انه شيء يشك ، و يفهم، و يتصور، و يثبت و ينفي، و يريد و يتخيل، و يحس أيضا". و من ثمة هوية الأنا تتحدد من خلال التفكير، بمعنى: أن وعي الذات لذاتها لا يمر عبر وسيط خارجي( حتى و إن كان هذا الوسيط هو الجسد نفسه) بل تتحقق هوية الشخص من خلال التفكير كفعل عقلي و ليس من خلال الجسد .صحيح ان ديكارت يثبت ان هوية الشخص تقوم على مبدأ الذاتية ،مما يعني أن الشخص يكفي نفسه بنفسه لإثبات هويته وبالتالي ليتحقق لديه الوعي بذاته. وصحيح أيضا أن الذات الفردية لدى ديكارت ( الوعي بالذات كحقيقة بديهية) تقوم على أساس فلسفي، اي أن الانا ترتد إلى ذاتها و تعود إليها لتفحص كل ما تلقته و تعيد بناء ذاتها وفق أساس منهجي صارم(تذكر قواعد المنهج لدى ديكارت، استحضر كتابه "مقال في المنهج".

لكن من المآخدات التي سوف تؤخذ على ديكارت ، انه يضعنا أمام ذات منغلقة على ذاتها ستكفي نفسها بنفسها و لا تسمح لأي تدخل خارجي في تحديد هويتها، لا تحتاج في وجودها الا لذاتها ، و هذا ما يؤسس لما يصطلح عليه "الأنا وحدية " solipsisme و بالتالي يترتب عن ذلك لدى ديكارت ان الشخص يبقى منعزلا وحيدا، تحصر هويته في بعدها الميتافيزيقي .المنفصل عن الوجود مع.

2 -الموقف النفسي موقف فرويد Freud (1856-1939):

يجب أن نستحضر أن موقف فرويد من هوية الشخص جاءت نتيجة الانتقادات التي وجهها لفلسفة الوعي ، بحيث سيتناول هذه المسالة(مسالة هوية الشخص) من منطلق فلسفة الغريزة و التي ستعتبر المرجع الأساسي لدى فرويد و هي مخالفة تماما للفلسفة العقلانية التقليدية... سيفكر فرويد في الإنسان كمركب تتجاذب أجزاؤه في صيرورة لا متناهية، كمركب من التناقضات و المفارقات ، كمركب من الأجزاء ،في صراع مستمر و دائم. سيستبعد فرويد بتصوره هذا مقولة الوحدة و التشابه التي دافعت عنها الفلسفات التقليدية منها فلسفة ديكارت.والرهان الذي سيخوضه فرويد هو تحطيم أسطورة اللوغوس كما سنرى فيما سيأتي: إذا كان ديكارت يعزل هوية الشخص و يحددها في التفكير ، ليخلص انها هوية ثابتة بالضرورة. فان فرويد يجعل هذه الهوية مرتبط بتلك الدينامكية بين مكونات الجهاز النفسي.(الهو / الأنا/ الأنا الأعلى):

**الهو : هو أول مكون يظهر على سطح الجهاز النفسي ة قد استخدم هذا المصطلح للدلالة على ما هو لا إرادي

و لا شعوري ، و هو الشكل الأصلي للجهاز النفسي . و يتكون الهو من الدوافع الفطرية" عدوانية و جنسية" ورغبات مكبوتة. تخرج رغبات الهو عن مبدأ الواقع و لا تعرف لا الزمان و لا المكان، و لاالعلاقات المنطقية بل تخضع لمبدأ

اللذة . إن الهو هنا يتميز بالاندفاع من اجل تحقيق الإشباع الغريزي المباشر بغض النظر عن الأخلاق و المجتمع و العقل..

**الأنا: لا يظهر الأنا على مستوى الجهاز النفسي دفعة واحدة، بل بالتدريج فهو يتشكل بشكل تدريجي بفضل التربية و التنشئة الاجتماعية .و بالتالي فهو يرتبط بالمجال الشعوري ، الإدراكي العقلي، عكس الهو المرتبط بالغريزة. يقول فرويد:" الانا هو جزء من الهو طرأ عليه تعديل بحكم مجاورته للعالم الخارجي و تأثره به. فوظيفة الأنا هي أن يمثل هذا العالم لدى الهو لما في ذلك من منفعة كبيرة لهذا الأخير، ولولا الأنا لتحطم الهو المندفع اندفاعا أعمى نحو الإشباع الغريزي"

إن الأنا هو ممثل الشعور و الإدراك في الجهاز النفسي، فهو المسؤول عن الإدراك الحسي سواء كان داخليا او خارجيا. و يتحمل الأنا مسؤولية الدفاع عن الشخص من خلال عمليات " التسامي، التحويل، الكبت."و هو مكون يخضع لمبدأ الواقع. إن الأنا ينمو و يتطور بدءا من إدراك الغريزة و انتهاء بالسيطرة عليها و يمكن القول ان الانا في علاقته المباشرة بالعالم الخارجي يستطيع إدراك و معرفة القيم و المعايير الأخلاقية السائدة في المجتمع. و بالتالي فهو يحاول أن يوفق بين رغبات الهو و مقتضيات الأنا الأعلى و متطلبات الواقع.

**الأنا الأعلى: هو تعديل للانا في مرحلة لاحقة، فألانا الأعلى هنا يراقب و يرصد كل تحركات الأنا خاصة في انسياقه مع رغبات الهو. و نشاط الأنا الأعلى يتمثل في معاقبة الأنا وزجره كلما سمح هذا الأخير للهو بالانفلات من سلطة الرقابة ويمكن ان تظهر الآثار و التجليات التي يتركها هذا العقاب على سطح الجهاز النفسي في الشعور بالذنب و تأنيب الضمير و الإحساس بالدونية. و هذه العلاقة التي تجمع بين الأنا والأنا الأعلى شبيهة بتلك العلاقة بين الابن والأبوين...

استنتاج:

ما يمكن أن نستنتجه إذن من موقف فرويد حول هوية الشخص إنها تتميز بالدينامكية والحركية والصراع بين قوى الجهاز النفسي و سعي الأنا باستمرار إلى تحقيق التوازن و التوفيق بينها رغم أن يفشل في ذلك. إذن هوية الشخص تنبني على الوعي / اللاوعي. الحضور/ الغياب. التعدد/ الاختلاف. اللذة/ العدوانية...الأمر الذي ينفي تطابق الحياة النفسية مع الحياة الشعورية .

3-الموقف التجريبي جون لوك 1632-1704 نموذجا)

سيصدر جون لوك كتابه "مقالة في الفهم البشري سنة (1690)"، وسيشكل هذا الكتاب إسهاما أساسيا في الإجابة عن سؤال الفلسفة خلال القرنين 17 و 18، وهو: كيف يدرك الإنسان ذاته والعالم؟ كيف يبني معرفته؟ وكيف يحافظ على وحدة الذات وبقائها في الزمن؟ ولحل هذه المشكلة اعتمد لوك مفهوم "الهوية الشخصية" انطلاقا من الشعور بوصفه قدرة تأملية. ينفصل في هذه الأمور في ما سيتقدم من موقف هذا الفيلسوف : ينظر لوك إلى الإنسان ككائن عاقل ، مفكر ، و يكون على وعي بأنه نفسه ذلك الكائن العاقل حيث ما كان وفي أي زمان كان. يعي بأنه هو نفسه الشخص الذي قام بفعل معين و يظل ذلك الفعل لاصقا بهويته ووعيه مهما تغيرت الظروف و تعاقبت الأزمان. إن مايحدث الهوية الشخصية إذن هو الوعي، فبواسطته تنسب الأفعال الى الفاعل و به تثبت مسؤوليته عليها. و هو الذي يبرر الثواب و العقاب، ولهذه الاعتبارات جعل لوك من مفهوم الشخص احد المفاهيم القانونية الأساسية ، ونظر إلى بعده الجوهري المتمثل في الوعي باعتباره المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه الأهلية القانونية والعدالة.

بصفة عامة ما يمكن استنتاجه من تصور لوك حول الهوية الشخصية باعتبارها لا تكمن في وحدة جوهر فرد أو جواهر متعددة بقدر ما تكمن في وحدة الوعي باعتبار هذا الأخير يرافق الفكر باستمرار يقول جون لوك." بما أن الوعي يرافق الفكر باستمرار و هذا بالضبط ما يجعل كل واحد منا يطلق على ذاته اسم الأنا، و بواسطته يتميز عن كل الأشياء المفكرة الأخرى، فإن هذا أيضا ما يجسد الهوية الشخصية".

تركيب المحور:

رأينا من خلال هذا المحور، أن الإجابة على سؤال ما الذي يجعل الشخص هوهو؟ هي إجابة تختلف من منظور إلى آخر. لذلك وجب التركيز على أن هوية الشخص لا يمكن تحديدها من زاوية واحدة فقط فالإنسان هو كائن مركب فهو كائن مفكر و في نفس الوقت يتحدد من خلال بنية نفسية تتميز بالديناميكية و الحركية و الصراع أيضا،  و يتحدد كذلك باعتباره كائن واعي يحصل له الوعي بهويته كذات مطابقة لذاتها في الزمان و المكان أي كائن له ذاكرة .و في النهاية يمكن أن نخلص الى إن هوية الشخص هوية مركبة، إنها هوية متفاعلة و في تشكل دائم...

المـــــــــحـــــــور الثاني: الشخص بوصفه قيمة:

إشكال المحور: سنتساءل في هذا المحور حول قيمة الشخص، من أين يستمد هذه القيمة؟ هل تكمن قيمة الشخص في كونه غاية أم مجرد وسيلة؟

1-الموقف الكانطي:1724-1804:

سيفكر كانط بشكل مركزي في مفهوم الشخص ليجعله مبدأ مؤسسا للأخلاق الحقيقية. و سيربط قيمة الشخص بالوعي الأخلاقي. إن إنسانية الإنسان جديرة بالاحترام لأن "الإنسانية نفسها هي كرامة؛ وبصرامة فكرية قصوى،

بيَّن كانط أن أعمق فرائض الإنسان هي احترام "كرامة الإنسانية في شخصه هو، وفي الآن نفسه، الاعتراف "بـالكرامة" الإنسانية في كل إنسان آخر.

يقول كانط في كتابه " أسس ميتافيزيقا الأخلاق :" تصرف على نحو تعامل معه الإنسانية في شخصك أو في شخص غيرك، كغاية دائما و ابدآ ، وليس كمجرد وسيلة."

إن أساس هذا المبدأ، بحسب كانط، هو أن الأشخاص، على العكس من الأشياء التي ليست إلا وسائل، موجودون كغايات بحدِّ ذاتهم. هذا يعني أن نُعامل أنفسنا وغيرنا كغايات لذاتها وليس كوسائل لتحصيل منفعة. لأن الأولى غاية عقلية ،تتحدّد بقانون عقلي مُلزم، وهذه الغاية ثابتة وكونية. والثانية- أي أن نعامل أنفسنا وغيرنا كوسيلة -غاية حسّية مرتبطة بالتجربة وهي جزئية ومتغيّرة ولا تصلح أن تكون مصدرا لقيمة الشخص، و سيؤكد كانط هذا في كلامه:"الإنسان، وكل كائن عاقل عمومًا، موجود كغاية بحدِّ ذاته، وليس كمجرد وسيلة تستطيع هذه الإرادة أأو تلك أن تستعملها كما يحلو لها؛ ففي أعماله كلها، سواء ما يخصه منها أو ما يخص كائنات عاقلة أخرى، يجب أن يُعتبَر دومًا بوصفه غاية في الآن نفسه".

هذا الموقف الذي أرخ له كانط في العديد من كتبه خاصة في كتابه "الأسس الميتافيزيقا للأخلاق" في القرن 18سنجد صداه عند فلاسفة آخرين و أيضا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: ورد في المادة الأولى من هذا الإعلان ما يلي: يولد جميع الناس أحرارا" و متساوين في الكرامة و الحقوق".

بصفة عامة يمكن القول إن كانط بنى تصوره لقيمة الشخص على أساس أخلاقي . فالشخص البشري عنه يتميز عن الكائنات و الموجودات الطبيعية بامتلاكه للعقل و الإرادة و الحرية و الكرامة، كما أنه غاية في ذاته ، ان وعي الإنسان بأنه شخص أخلاقي يمتلك كرامة يترتب عنه خضوع سلوكه للمبادئ الأخلاقية الخيرة و عدم سعيه إلى تحقيق أهدافه بطريقة دنيئة ، لأنه يمتلك ما يسميه كانط "بالإرادة الطيبة "و على هذه الإرادة تتحدد القيمة الأخلاقية للشخص، فجوهر الإرادة الطيّبة هو حضور" النيّة " في احترام الذات والآخر كغاية في ذاتهما، لأنها هي ذاتها غاية في ذاتها كمبدأ عقلي لا يستمدّ وجوده من خارجه بل من ذاته، وبالتالي احترامي للشخص نابع بالضرورة من احترامي للمبدأ الأخلاقي كمبدأ خيّر بذاته. وبالتالي فالقيمة الأخلاقية ليست فيما نفعله، بل النيّة التي تُحدد الفعل، وباعتبار هذا النية استجابة لأمر أخلاقي قطعي نابع من العقل الخالص كسلطة عليا تحمل حقيقتها في ذاتها وليس في نتائجها.إن قبلية التصور الأخلاقي وإن بدا مُلزما فالشخص بإرادته الطيّبة هو الذي يُلزم نفسه باحترام القانون الأخلاقي بسبب خيريّته، هنا يُصبح الشخص وبمحض إرادته، والتزاما منه مُحترما للمبدأ الأخلاقي ليس فقط لكونه قبليا في العقل الخالص، ولكن أيضا بسبب خيريته ذات الطابع الكوني كضرورة تتحدد بكونيتها وهذا تجسيد في حد ذاته لحرية الإنسان .

2- موقف توم ريغان :

صحيح أن القرن 20 قد شهد تحسنا كبيرا للوضع البشري. مقارنة مع عصر الأنوار( إلغاء الرق+ التخفيف من الميز العنصري+ تكريس الحريات....)غير أنه عرف أيضا تأثير حربين عالميتان جسدتا واقعيا فكرة الدمار الشامل، انضافت إليهما الكثير من الحروب الأهلية و المحلية شهدت أبشع أنواع التطهير العرقي ، و معسكرات الاعتقال ( استحضر أمثلة على ذلك ما يحدث ألان في العالم العربي من ثورات و كيف أن بعض الأنظمة تعمل على إبادة شعوبها سوريا مثلا، القتل المنظم للأبرياء، الإرهاب العالمي، ...) . مما يجعل التأمل الفلسفي يعاود مجددا طرح السؤال حول حرمة الكائن البشري وسلامته الجسدية و بالخصوص حقه في عدم التعرض للأذى. مثلما نجده في الموقف التالي مع ثوم ريغان:

من الأكيد أن فلسفة ريغان هي امتداد لفلسفة كانط، لكن رغم أن كانط يؤسس للقيمة الأخلاقية للإنسان على أساس أخلاقي وهو امتلاكه لعقل أخلاقي عملي، ورغم أن كانط لم يغفل عن معالجة موقف الإنسان حيال " المخلوقات التي تتصف بالحياة، وإنْ تكن عديمة العقل". إذ يعتبر أن على الإنسان، على سبيل الواجب تجاه نفسه، أن يجتهد في تجنب العَنَف بالحيوان، لأن معاملة كهذه تحضِّره سلفًا لقبول استعمال العنف ضد غيره من البشر. وقد قال في ذلك:"إن معاملة الحيوانات معاملة عنيفة، وفي الوقت نفسه قاسية، وثيقة التعارض مع واجب الإنسان حيال نفسه، لأن من شأنها أن توهن التعاطف مع عذاباتها في المرء ولأن ذلك يُضعف، وشيئًا فشيئًا يفني، استعدادًا طبيعيًّا نافعًا جدًّا للأخلاقيات في العلاقة مع غيره من البشر".

غير أن كانط لا يمضي بعيدًا في ذلك. هذا الموقف الكانطي في تصور ريغان لا يكفي ، وحجته في ذلك أننا ملزمون باحترام القيمة المطلقة لكائنات بشرية غير عاقلة مثل الأطفال و الرضع و الذين يعانون من عاهات عقلية...لذلك فان الخاصية الحاسمة و المشتركة بين الكائنات البشرية ليست هي العقل. بل كونهم يحيون حياة يعنيهم أمرها .

سيمضي توم ريغان بهذا المبدأ (مبدأ الحق في الحياة) إلى ابعد من ذلك فيخلص الى أن جميع المخلوقات التي يمكن أن تكون "قابلة للحياة" تستحق أن تحترم مصالحها في عيش أفضل، وهذا ما يؤكده بكلامه" الكائنات البشرية ليسوا أحياء فحسب ، بل إنهم يمتلكون حياة ، وفوق ذلك ، إننا موضوعات لحياة هي في مختلف الأحوال لأجلنا، وهذا مستقل منطقيا عن أي تقييم لنا من قبل أي أحد آخر أو باعتباره لنا نافعين".

واضح اذن أن طوم ريغان يجسد الفلسفة الكانطية في نظرتها لقيمة الإنسان باعتبارها قيمة أصلية مطلقة، أي أنه

غاية في ذاته و لس مجرد وسيلة. فهو يؤكد أن " كل كائن بشري يمتلك قيمة مستقلة منطقيا عن كونه ذا قيمة لأي شخص آخر ،أو بمعنى مطابق ربما ، مستقلة و يمتلكون قيمة متميزة عن كونهم موضع مصلحة او نفعهم ومهاراتهم.".

تركيب المحور:

من السهل إذن أن نجد هذه الاعتبارات الفلسفية لقيمة الشخص البشري وحرمة جسده...هي نفسها التي نجدها حاضرة بوضوح وبقوة في مختلف إعلانات حقوق الإنسان و المواثيق الدولية. كما أنها الأساس الفلسفي المعتمد عند وصف جرائم الحرب و الإبادة بجرائم "ضد الإنسانية".

المحور الثالث: الشخص بين الضرورة والحرية:

إشكال المحور: سنطرح في هذا المحور المفارقة الثالية: كيف يمكن للشخص أن يتموضع بين الضرورة والحرية؟ هل الشخص حر ام انه خاضع؟

سنجيب على هذه الاشكالات من خلال الاشتغال على اطروحات أساسية: أطروحة الضرورة/اطروحة الحرية.

1-أطروحة الضرورة:

سنستحضر هنا موقف العلوم الإنسانية خاصة، اذ يبدو الشخص من منظور هذه العلوم عبارة عن نماذج نمطية جاهزة يتأطر ضمنها الأفراد بشكل موضوعي و مستقل عن إراداتهم و كأنها تحدد قدرهم. هذه الدراسة العلمية للإنسان(' البيولوجيا+ علم النفس+ علم الاجتماع...) تؤكد على عجزه وخضوعه للعديد من الحتميات و الاشراطات ، التي تعمل على تحديد و توجيه سلوكاته عبر قنوات تصاغ بكيفية لاشعورية، أو عن طريق المؤسسات الاجتماعية، ضمن قوالب جاهزة، فالشخص لا يختار جنسه و غرائزه، و لونه، و أنواع الأمراض و الصفات الوراثية التي يتصف بها. كما أن الشخص خاضع لإكراهات نفسية و سلوكية هي التي تحدد شخصيته، فالنظرية السلوكية في علم النفس تنظر إلى الشخص باعتباره مجموع السلوكات و الاستجابات المرتبطة بالمثيرات الخارجية ( تذكر أن المدرسة السلوكية مع "واطسون" ترى في الإنسان مجرد آلة ميكانيكية) .أما التحليل النفسي مع فرويد فيختزل الشخص ضمن مجموعة من الحتميات اللاشعورية ، فهو يرى أن كل سلوك إنساني كيفما كان يتم تحريكه من طرف الهو ، هذا الهو الذي قال عنه " نتشه" وراء أفكارك و شعورك يختفي سيد مجهول يريك السبيل اسمه الهو ، في جسمك يسكن ، بل هو جسمك، و صوابه أصوب من صواب حكمتك".

يظهر إذن الشخص محكوم بعدة حتميات نفسية / سلوكية، و في نفس الاتجاه فان هذا الشخص وبشكل لا شعوري لا يعدو ان يكون مجرد انعكاس للشخصية الأساسية للمجتمع. و لا يعدو أيضا أن يكون مجرد انعكاس للنماذج الثقافية السائدة في المجتمع و التي ترسخت لديه بفعل التنشئة الاجتماعية التي تمارس بدورها نوعا من القهر على الشخص ...

هكذا يتلخص الشخص في العلوم الإنسانية ضمن نماذج جاهزة، ومن تم تقوم هذه العلوم باختزال وحدة الشخص الإنساني، و هويته، ووعيه وفكره، و حتى حريته و قيمته الأخلاقية في علاقات ميكانيكية، أو بنيات لاشعورية، أو في ما تمارسه المؤسسات الاجتماعية من قهر و إكراه عليه باعتباره مجرد " موضوع" أفرغ من مقومات إنسانيته.

2-أطروحة الحرية :

إن التفكير في مسألة حرية الشخص يجعلنا نستحضر مجموعة من المواقف الفلسفية . لكننا

سنكتفي هنا بموقف أساسي، هو موقف الفلسفة الوجودية مع سارتر: تتحدد رؤية سارتر للإنسان/ الشخص من خلال التمييز بين شكلين من أشكال الوجود:- الوجود في ذاته: وهو وجود الأشياء و الموجودات غير الواعية، و بالتالي غير الحرة ، و التي لا تملك مشروعا خاصا بها.

-الوجود ذاته: وهو الشكل الانطولوجي المميز للوجود الإنساني، أي أن الإنسان يوجد أولا ثم يحدد مشروعه ، و اُختياراته كوجود و كمشروع مستقبلي و كاٌرتماء في المستقبل، يعمل على تجاوز ذاته ووضعيته وواقعه باستمرار من خلال اختياره لأفعاله بكل إرادة وحرية ومسؤولية، ومن خلال انفتاحه على الآخرين. ولتأكيد ذلك ينطلق سارتر من فكرة أساسية في فلسفته وهي "كون الوجود سابق على الماهية"، أي أن الإنسان يوجد أولا ثم يصنع ماهيته فيما بعد.إنه الكائن الحر بامتياز، فهو الذي يمنح لأوضاعه معنى خاصا انطلاقا من ذاته؛ فليس هناك سوى الذات كمصدر مطلق لإعطاء معنى للعالم.إن الشخص هو دائما كائن في المستقبل، تتحدد وضعيته الحالية تبعا لما ينوي فعله في المستقبل.فكل منعطف في الحياة هو اختيار يستلزم اختيارات أخرى، وكل هذه الاختيارات نابعة من الإنسان باعتباره ذاتا ووعيا وحرية. يقول سارتر :"ليس الإنسان شيئا آخر غير ماهو صانع بنفسه". هذه العبارة تلخص النظرة الوجودية لدى سارتر إلى الإنسان ، أي أن الإنسان يضع ذاته باستمرار وفق ما يختاره لنفسه ووفقا للصورة المستقبلية التي يضعها نصب عينيه, فالكائن الإنساني هو الكائن الوحيد الذي يسبق وجوده ماهيته، أي أنه يوجد أولا ثم يصنع ماهيته فيما بعد، سوف ترتكز الوجودية على فكرة أساسية وهي القول بالحرية الإنسانية وهو ما يعبر عنه سارتر بمفهوم "الذاتية الإنسانية "التي تعني أساسا أن الإنسان يصنع نفسه بنفسه، وأنه هو الذي يمنح للأوضاع الاجتماعية والثقافية وغيرها معنى محددا انطلاقا مما يرغب فيه وما يطمح إليه.

يرى سارتر أن الإنسان ليس في ذاته إلا ما يفعل أي أنه لا يمكن معرفة شخصية الإنسان إلا من خلال ما ينجزه وما يقوم به من أفعال أثناء وجوده التاريخي والفعلي، فلا يمكن معرفة الإنسان من خلال قوالب عقلية مجردة، فوجوده لا يتحدد بالتفكير كما زعم ديكارت بل يتحدد بالفعل أو التصرف الذي يصدر عن الذات ويترجم على أرض الواقع، ولهذا يمكن القول مع سارتر بكوجيطو جديد: “أنا أفعل إذن أنا موجود”. إن قول سارتر بحرية الإنسان يترتب عنه القول بمسؤوليته. و مسؤولية الإنسان مزدوجة؛ فهو مسؤول عن نفسه ومسؤول أيضا عن الإنسانية جمعاء، لهذا لا يجب على الإنسان حسب سارتر، أن يفعل ما يضر بنفسه أو بالإنسانية، فالإنسان الوجودي كما يتخيله سارتر هو إنسان حر لكن حريته مرهونة بالتزامه بالمبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية التي يجب عليه تجسيدها في وجوده لكي يقدم صورة مشرقة عن إنسانيته.و هذا ما عبر عنه في قوله: "ليست هناك حتمية، للإنسان حرية، إننا وحيدون بدون أعذار، وهذا ما سأعبر عنه بقولي إن الإنسان محكوم عليه بان يكون حرا، نحن محكومون بالحرية".

تركيب المحور:

ما يمكن استخلاصه من المحور السابق أن الشخص يتموضع بين الضرورة و الحرية و يجب الإقرار بهذا التموضع لان الشخص من جهة خاضع لضرورات لا يمكن الانفلات منها .لكن في نفس الوقت لا يمكن أن ننفي عن هذا الكائن كونه حر، باعتباره مشروعا يفعل بنفسه ما يشاء و فق الوضعيات التي يتموضع فيها ومن خلالها.

تركيب عام للدرس:

*رأينا في هذا الدرس أن مفهوم الشخص مفهوم صعب باعتباره مفهوما فلسفيا يطرح تساؤلات و إشكالات و ينفتح على الكثير من الوضعيات التي تحدده.

*رأينا أيضا أن هوية الشخص ارتبطت من جهة بالتفكير و الوعي، و من جهة اخرى بالصراع و الحركية التي تميز البنية النفسية للشخص، و من جهة أخرى ارتبطت بالشعور الذي يرافق وعي الإنسان بذاته في مختلف حالاته التي يحياها و يحس بها.

*رأينا كذلك أن قيمة الشخص التي يمتلكها باعتباره كائنا عاقلا أخلاقيا، تتحدد في امتلاكه للكرامة و كذا اعتباره كائنا يستحق الحياة و بالتالي فقيمته التي يكتسبها لا تتم إلا داخل العلاقة مع الغير و احترام كرامة الإنسان.

*و أخيرا رأينا أن هذا الشخص رغم تواجده في بنية يخضع لها ، ورغم انه يتحدد بواسطة الكثير من الحتميات والاكراهات التي يخضع لها فانه يبقى مشروعا حرا، ينفتح على إمكانات لانهائية.

-------------------------------------------------------

مفهوم الغـــــيــــــــر:

تقديم:

لم يتبلور مفهوم الغير باعتباره آخرا، مختلفا إنسانيا، وبوصفه مشكلة فلسفية، إلا في زمن متأخر نسبيا. وبصفة خاصة مع فلسفة هيجل. إلا أن إشكالية مفهوم الغير رغم حداثتها فإن جذورها الفلسفية تعود إلى الفلسفة اليونانية. بينما تعود هذه الإشكالية من حيث الموقف الذي نشأت ضده إلى الفلسفة الذاتية مع ديكارت. يتحدد المجال الإشكالي للغير باعتباره عالما إنسانيا يشبه الأنا و يختلف عنه، إذ لا يتحقق الوجود الإنساني الفردي ( الأنا) و الجماعي (الهم/ النحن) إلا بحضور مادي ورمزي لذوات إنسانية تنشأ بينها علاقات مركبة و متداخلة. و يطرح التفكير في الغير عدة تساؤلات تجعل منه محط العديد من المفارقات: انطولوجية كانت أو معرفية او أخلاقية و علائقية. سنختزلها في مستويات أساسية ثلاث:

-المستوى الانطولوجي / الوجودي: ما طبيعة العلاقة بين الأنا و الغير؟ هل يمكن فصل وجود الأنا عن وجود الغير؟ ماذا يشكل وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا؟

-المستوى المعرفي: هل يمكن معرفة الغير؟ هل الغير موضوع أم ذات؟ هل يتمتع الغير مثلي بالوعي و الإرادة و الحرية أم يخالفني من حيث هو موضوع لمعرفتي؟ هل معرفة الغير ممكنة ام مستحيلة؟ ألا أحول الغير إلى موضوع أو شيء حين أعمل على معرفته؟ هل توجد إمكانية لمعرفة الغير دون تشييئه أو تحويله إلى موضوع؟

- المستوى الأخلاقي/ العلائقي: ما أوجه العلاقة التي تربطني بالغير؟ على أي أساس تقوم هذه العلاقة؟ ما هي الرهانات التي تنشأ عن علاقة الأنا بالغير؟

سنعمل على تناول هذه الإشكالات في المحاور التالية:

-المحور الأول: وجود الغير

- الحور الثاني: معرفة الغير

- المحور الثالث: العلاقة مع الغير

المحور الأول: وجود الغير

إشكال المحور: بأي معنى يوجد الغير؟ هل يمكن فصل وجوده عن وجود الأنا؟ ثم هل وجود الغير ضروري لوجود الأنا؟

يقول ديكارت في كتابه التأملات الميتافيزيقية في التأمل الثاني مايلي: "أنظر من النافذة فأشاهد بالمصادفة رجالا يسيرون في الشارع، فلا يفوتني أن أقول إني أرى رجالا بعينهم، مع أني لا أرى من النافذة غير قبعات ومعاطف قد تكون غطاء لآلات صناعية تحركها لوالب . لكني احكم . بأنهم أناس. وإذن أنا أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت أحسب أني أراه بعيني"

سيتساءل ديكارت في هذا التأمل و هو بصدد أشخاص آخرين، عما يراه من نافذة تطل على شارع عمومي, لم يطرح سؤال الغير باعتباره مشكلة جديدة و خاصة، بل إنه رأى فيه جسما متحركا شبيها بباقي الأجسام، و ليس كائنا مختلفا كثيرا عن الأنا، فالوجود الحقيقي هو وجود الأنا الذاتي المطلق و الذي يمارس التفكير و يعي ذاته بكل وضوح و تميز دون تدخل لأي وسيط. لقد اعتمد ديكارت على الشك قصد إعادة بناء و تشكيل المعرفة بصفة عامة و معرفة الذات بصفة خاصة ، على أسس و مرتكزات أكثر يقينا و تباتا، وهكذا اٌنتهى إلى معرفة وجوده و اتباثه في معزل عن الغير و العالم الخارجي في إطار ما يسميه" بالأنا وحدية"، إذ لم يكن في حاجة إلى وساطتهم للتيقن من وجوده، فالأنا حاضرة مباشرة أمام ذاتها في فرديتها و خصوصيتها و في استقلال كلي و مطلق عن الغير.و سنده في ذلك هو " التفكير".

إن وجود الغير لا يمكن ان ينظر إليه ديكارت كحقيقة مطلقة لأنه يدرك فقط بالحواس، و الحواس في نظره خادعة و مضللة، لذلك فوجود الغير هو وجود " جائز" قابل للشك و النفي مادمنا ندركه فقط بواسطة الحواس أو ما يسمى

" بالاستدلال بالمماثلة " فالذات لا تلتقي حسب ديكارت مع ذات أخرى إلا من خلال هذا الاستدلال بالمماثلة ـ التي تفترض فيها الذات أن العلاقة بين روحها وجسدها هي نفس العلاقة بين روح وجسد الغير.

هذا الموقف الديكارتي سوف نجد امتداده في موقف فيلسوف آخر هو مالبرانش، الذي يقول:" إننا لا نعرف نفوس الناس الآخرين و لا نعرف عقولهم إلا معرفة قائمة على التخمين، و ما يمكننا الوصول إليه هو محاولة إطلاق فرضيات تقول بأن الناس الآخرين هم نفس فصيلة ذواتنا" سنلاحظ أن ديكارت ومالبرانش سيتفقان على أن الوجود الحقيقي هو وجود الذات لأنها تدرك نفسها بشكل مباشر وحدسي، بينما وجود الغير هو وجود مفترض لأننا لا ندركه إلا بواسطة الحواس، و بالتالي فوجوده مجرد تخمين و اُفتراض يمكن الشك فيه، لاننا ندركه فقط بما يسميه مالبرانش على غرار أستاذه ديكارت "بالاستدلال العقلي بالمماثلة". (تذكر أننا سنستحضر نفس المواقف في المحور الثاني).

رأينا إذن أن وجود الغير هو وجود مفترض لا يمكن إدراكه بشكل مباشر بل نحتاج دوما في تصور العقلانيين إلى وسيط الذي يتمثل في الحواس ن لكن رغم ذلك هو وجود يمكن الشك فيه وبالتالي نفترض أن الغير موجود فقط لأنه يشبهنا (الاستدلال بالمماثلة).

سوف نتجاوز هذا الوقف الديكارتي إلى موقف أخر نثبت من خلاله أن الغير موجود ووجوده ضروري لوجود الذات وإثباتها. نستحضر هنا كموقف نقيض للمواقف السابقة موقف هيجل باُعتبار أطروحته قد تأسست فلسفيا كأطروحة نقيضة للأطروحة الذاتية عند ديكارت.

يقول هيجل في كتابه" فينومينولوجيا الروح: مايلي:" يكون وعي الذات (الإنسان) أولا وجودا لذاته بسيطا. وهو اذ يقصي عن ذاته كل ما هو آخر بالنسبة اليه، فانه يكون مساويا أو مطابقا لذاته، وتقوم ماهيته فى كونه أنا. وهو فى وجوده المباشر هذا (إدراكه لذاته كأنا ) شيء فردى. ويكون مإ هو أخر بالنسبة إليه موضوعا ... أي شيئا غير جوهري، متسما بطابع السلب (لكونه لا - أنا). غير أن الآخر البشري هو أيضا وعي للذات هكذا ينبثق فرد أمام فرد، ويقف أمامه وجها لوجه. وبظهورهما على هذا النحو المباشر، يكونان في صورة موضوعين أحدهما بالنسبة للآخر" واضح من هذا النص أن مشكلة وجود الغير لم تطرح لدي هيجل كما طرحت في فلسفة ديكارت، إن الغير موجود، وإذ يوجد فهو موجود "كأنا" لذاتها كما الأنا موجودة لذاتها ووجودها ملازم لوجود الذات ومحايث لها باستمرار، بل حتى أن تلك المعرفة التي تكونها الذات عن نفسها رهينة بوجود الغير. لكن السؤال الذي طرحه هيجل هو كيف تعي الذات نفسها؟

سيجيب هيجل على هذا السؤال من خلال قوله :" (...)يتقابل وعي خالص لذاته من جهة، ووعي ليس وعيا لذاته بكيفية خالصة، من جهة أخرى وإنما هو وعي من أجل وعي آخر، أي أنه..وعي يوجد على نمط وجود الأشياء" يدخل كلا الوعيين في صراع وتحقق الوعي بالذات من طرف احدهما يقتضي بالضرورة انهزام للطرف الأخر و بالتالي يصير احد الطرفين سيدا و الأخر عبدا، فالأول يحصل له الوعي الخالص بينما الثاني يكون وعيا تابعاٌ. فليس الوعي بالذات هو معرفة الأنا لذاتها، بل هو التعرف على ذاته في موضوع غريب عنه هو الغير، و تحقيق الوجود ونزع الاعتراف يقتضي أيضا الدخول في علاقة صراع ومواجهة مع هذا الغير، لذلك الاعتراف بوجود الذات لا تتم الا من خلال فكرة صراع الذوات.

نستنتج إذن مع هيجل أنه لا وجود للأنا معزولا عن الغير فهذا الأخير يشكل ضرورة أنطولوجية/معرفية .

هذا الغير الذي سينظر إليه سارتر كوسيط تكشف من خلاله الذات عن وجودها في العالم. يقول سارتر:" الغير هو الوسيط الذي لاغنى لي عنه بيني و بين نفسي" الغير هو الوسيط و هذا ما أعلن عنه سارتر بشكل واضح في كلامه، يعني ذلك انه يقر بأن الغير يوجد كذات /كوعي. لكن هذا الغير رغم أنه ضروري بالنسبة لي كي اعرف ذاتي و أعيها كوجود فإن هذا الغير يعمل على تحويلي إلى موضوع و تشييئي بواسطة "النظرة" هذه النظرة التي تشعرني "بالخجل" الذي يعبر عن حضور الذات أمام الغير. يقول سارتر في كتابه الوجود و العدم: "وهكذا نجد أن الخجل هو خجل من الذات أمام الغير، فهاتان البنيتان غير منفصلتين، ولكن في الوقت نفسه أنا في حاجة الى الغير لأدرك إدراكا كاملا كل بنيات وجودي ولهذا فإن ما هو من أجل ذاته يحيل على ما هو من أجل الغير". إن العلاقة الوجودية مع الغير تأخذ شكلين لدى سارتر فمن جهة يمثل وسيطا بيني و بين ذاتي و به اعرف ذاتي من خلال النظرة و التي ينتج عنها الخجل" إن نظرة الأخر تجعلني أعي ما تحمله حركتي من سوقية، فاشعر بالخجل و اعترف بصحة حكمه لأنني اشعر بالخجل". و يمثل أيضا ( الغير) تهديدا للذات من خلال تشييئها و جعلها كموضوع " بظهور الغير، أصبح بمقدوري أن أصدر حكما على نفسي كما أصدره على موضوع ما، لأني أظهر للغير بوصفي موضوعا". و سيصبح هنا الغير بمثابة الجحيم لأنه يحد من حريتي و يمنعني منها لأنه يحولني إلى موضوع يحكم عليه، كما أحوله إلى موضوع انظر إليه، لذلك يقول سارتر " الآخرون هم الجحيم".

تركيب المحور:

رأينا إذن أن أنماط وجود الغير يختلف من فلسفة إلى أخرى: فالعقلانية تجمع على أن وجود الغير ليس ضروريا حتى وان وجد هذا الغير فإنها لا تدركه بشكل يقيني وواضح بل يبقى وجوده محتملا وقابلا للشك لأننا ندركه فقط بواسطة الحواس.

ورأينا أيضا أن وجود الغير لدى هيجل ضروري لأن بواسطته يمكن للذات أن تعي ذاتها من خلال انتزاع الاعتراف من الغير الذي تدخل معه في صراع من اجل الوعي بالذات. ونفس الاتجاه سينهل منه سارتر حين سيعترف بان الغير هو بمثابة الوسيط بيني وبين نفسي، أي أن وجود الغير ضروري رغم انه يحولني إلى موضوع....

المحور الثاني: المستوى المعرفي: معرفة الغير:

إشكال المحور: هل يمكن معرفة الغير؟ أم أن معرفة الغير مستحيلة؟ هل أعرفه كذات مثلي، أم أعرفه كموضوع و كشيء؟

1*صعوبة واُستحالة معرفة الغير:

لمناقشة هذه الأطروحة سنستحضر بعض المواقف الفلسفية التي تتفق على صعوبة و استحالة معرفة الغير (ديكارت، مالبرانش، سارتر).

 رأينا في المحور السابق مع ديكارت أن وجود الغير ليس ضروريا لوجود الأنا، لأننا ندرك ذواتنا بشكل حدسي ومباشر و لا نحتاج في ذلك الى وسيط سواء وساطة الحواس او وساطة الغير، هذا الغير الذي ندركه بواسطة الحواس ( تذكر نص ديكارت: أنظر من النافذة فأرى رجالا يسيرون في الشارع ....) و ما ندركه بواسطة الحواس لدى فيلسوف العقلانية يكون معرضا للشك. من هنا سنستنتج أن استحالة معرفة الغير لدى ديكارت لم يكن حكما اعتباطيا، لان الذات التي تعرف ذاتها بحدس مباشر لا يمكن الشك فيه، يستحيل عليها أن تتوجه إلى الغير لتعرفه لان ما نعرفه يكون فقط نتيجة لان هذا الغير يشبهنا و نتقاسم معه نفس الخصائص، وهذا في نظر ديكارت غير كاف لمعرفته حق المعرف و بالتالي تبقى معرفة الغير قابلة للشك و النفي بل قابلة للخطأ مادام ما ندركه من الغير يكون بواسطة الحواس وهذه الأخيرة تبقى دوما محط شك في فلسفة ديكارت لأنها خادعة وكاذبة (استحضر أمثلة على ذلك).

بما أن مالبرانش تأثر في شبابه بديكارت، و بما أن هذا الأخير يؤكد على صعوبة معرفة الغير. فإن مالبرانش يجسد تأثر بديكارت في تأكيده بأن المعرفة التي نكونها عن الآخرين كثيرا ما تكون معرضة للخطأ إن نحن اكتفينا بالحكم عليهم اعتمادا على الإحساسات التي كوناها عن أنفسنا. يقول مالبرانش في كتابه" في البحث عن الحقيقة":" لم يبقى أن نفحص من بين جميع موضوعات معرفتنا سوى نفوس الآخرين و عقولهم الخاصة. و الظاهر أننا لا نعرفها إلا افتراضا...إننا نفترض بأن نفوس الآخرين تشبه نفوسنا في نوعيتها، و نزعم بأن ما نشعر به بداخلنا هو ما يشعرون به". واضح من هذا النص أن معرفة الغير من خلال الأنا، هي معرفة نسبية و غير ممكنة فالتشابه في الإحساسات و التماثل الذي يقيمه الأنا مع الغير لا يعطي معرفة حقيقية عنه و بالتالي تبقى معرفته ناقصة بل مستحيلة...

إذا كان كل من ديكارت و تلميذه يتفقان على ان معرفة الغير تبقى مستحيلة لأننا نعرفه فقط عن طريق الاستدلال بالمماثلة و هذه المعرفة تكون معرضة للشك و الخطأ.

فإن سارتر سيتخذ من الصلة بين الذات والغير في فلسفة هيجل موقفين مختلفين: الأول إيجابي حيث يشيد ويثني على هيجل لكونه أتبث حاجة الذات إلى الغير. والثاني سلبي حيث ينتقد العلاقة المعرفية التي وضعها هيجل بين الأنا والغير، لأن مفهوم المعرفة لا يسمح لنا بتحديد الصلة بالغير لأنه يحوله إلى موضوع، و في تحويله إلى موضوع يخلق هوة شاسعة و عدما سحيقا بين الذات و بين الغير، إذ يستحيل أن أنسلخ عن جسدي و اقتحم جسد الغير، كما يستحيل أن أخرج عن نفسي لأحل في نفس الغير. فبين "الأنا"و " الغير" عدم أصلي أولي قبلي.

إن العلاقة مع الغير لدى سارتر ليست علاقة انفصال مكاني، و إنما هي علاقة تداخل وجودي ومن تم فالعلاقة بينهما ليست علاقة معرفية بقدر ماهي علاقة وجود.

يرى سارتر أن " النظرة" هي التي تكشف لنا عن الغير بوصفه موضوعا مرة و ذاتا مرة أخرى.و تكشف لنا عن أنفسنا بوصفنا موضوعا مرة و ذاتا مرة أخرى، و النظرة عنده هي النافذة المفتوحة التي نشرف منها على وجود الغير، و الطريق الذي يقودنا إلى أعماق نفسه، و الوسيلة غير الموضوعية التي يخاطب بها وجودنا و نخاطبه.

لقد حلل هذا الفيلسوف الوجودي الصلة بالغير من خلال عملية النظرة، يقول في هذا: "إن الكيفية الوحيدة التي يمكن ان ينكشف لي بها الغير هي أن يتجلى لمعرفتي كموضوع".

هكذا تحولنا العلاقة المعيشية التلقائية الى نفس المشكلة ألا وهي تحويل الغير الى موضوع أو شيء و النتيجة هي أن معرفة الغيرمن زاوية كونه مجرد موضوع للمعرفة غير ممكنة و مستحيلة.

2* إمكانية معرفة الغير:

رأينا في الجزء الأول من هذا المحور أن معرفة الغير تكون إما افتراضية و معرضة للخطأ او تكون العلاقة معه تشييئية و بالتالي يستحيل معرفته .

في هذا الجزء سوف نتناول موقف ميرلوبونتي الذي لا يوافق بشكل مباشر على أطروحة سارتر لأن العلاقة بين الأنا و الغير في نظره تتأسس على " انغلاق الأنا و الغير على ذواتهما و يرفضان كل تواصل ممكن.أما إذا حصل الانفتاح على الغير وتم ربط جسور التواصل.فإن معضلة التشييئ تتلاشى و تزول، خصوصا و أن فعل التواصل يظل ممكنا بين الأنا و الغير إذا ما اتخذ صبغة إنسانية حتى اللاتواصل هو تعبير عن تواصل بطريقة ما. فالواقع إذن" أن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع، ولا تحوله نظرتي إلى موضوع...فالتواصل يقضي دائما على هذه العلاقة الموضوعية. "ويضيف قائلا:" ما أن ينطق بكلمة حتى يكف عن التعالي علي: هو ذا صوته و هي ذي أفكاره..." يدل كلام ميرلوبونتي على أن المواجهة بين ذاتين و ليس بين موضوعين، تحقق التواصل الذي يكون بين وعيين انه الوجود مع / الوجود بالمعية و المشاركة الوجدانية تكون بين ذاتين حقق لهما الانفتاح على بعضهما

إن معرفة الغير لا تقوم على تحليل نظري ولا ترتكز على سلطة الأحكام و المواقف، إنما تستند على التواصل و الاعتراف المتبادل و التعاطف، فهذا الموقف الميرلوبونتي ينفي تلك الأنا وحدية التي اشتعل عليها ديكارت و التي تلغي أي وجود للغير بل و تشك فيه أيضا حتى أن ميرلوبونتي يذهب إلى اعتبار هذا الذي يدرك وجوده إدراكا ضمنيا و الذي يعامل الناس على أنهم أشباهه، يقبع في عالم مظلم. بل إن معرفتي بالغير هي معرفة قادرة على التغلغل في أعماق الغير والتواصل معه وهو ما سماه ب: البين-ذاتية...

المحور الثالث: المستوى العلائقي: العلاقة مع الغير:

إشكال المحور: سنطرح في هذا المحور بعض الإشكالات التي تتناول العلاقة مع الغير: على ماذا تتأسس هذه العلاقة؟ ما هي أشكال هذه العلاقة؟ هل هي علاقة صداقة أم علاقة غرابة وعداوة؟ لماذا يرتبط الأنا بالغير برباط الصداقة والمودة؟

للإجابة على هذه الإشكالات سنكتفي بموقفين أساسيين (موقف كانط + وموقف جوليا كريستيفا)

1**علاقة الصداقة :

موقف كانط: يقول كانط في الجزء الثاني من كتابه "ميتافيزيقا الأخلاق" مايلي: " إن الصداقة في صورتها المثلى، هي اتحاد بين شخصيين يتبادلان نفس مشاعر الحب و الاحترام، و نرى بسهولة أن الصداقة عبارة عن مثال للتعاطف و التواصل بين الناس، وغاية هذا المثال تحقيق خير الصديقين اللذين جمعت بينهما إرادة طيبة أخلاقية، بالرغم من أن الصداقة لا تضمن سعادة الحياة." في هذا النص يبين كانط أن الصداقة في صورتها المثلى تقوم على أساس أخلاقي خالص يتعارض مع المنفعة المباشرة.و هذا ما يجعل العلاقة مع الغير من المنظور الكانطي، تتأسس على مبادئ أخلاقية و عقلية و كونية، فالصداقة باعتبارها قيمة مثلى تقوم على توازن بين عناصر الواجب الأخلاقي، إنها علاقة إنسانية نبيلة تجمع بين مشاعر الحب و مشاعر الاحترام المتبادل بين شخصين.

يضعنا إذن كانط أمام صداقة مثالية و ليس صداقة واقعية تتأسس على الاحترام، و هي تنبني كواجب أخلاقي، وبالتالي تُحترم لذاتها وليس لما تجلبه من منافع، أو تضمن سعادة الحياة. لان أي صداقة اُنوجدت بفعل منفعة قد تنتفي بانتفاء تلك المنفعة. لكن حين يُنظر إلى الصداقة كواجب أخلاقي، عندها فقط تكون ضرورية وكونية لأنها قبلية في العقل، وبالتالي تم فصل الصداقة عن أهواء ورغبات ومنافع الناس.

لمناقشة موقف كانط و التوسع فيه استحضر موقفه من قيمة الشخص ، يمكنك أيضا أن تستحضر موقف ميرلوبونتي من معرفة الغير و ووجوده باعتبار الانفتاح على الغير والتواصل معه و التعاطف مع الغير يسمح بربط هذه العلاقة الايجابية معه باعتباره غيرا مثلي كذات و كوعي...

2**علاقة الغرابة:

موقف جوليا كريستيفا: تتطرق جوليا إلى هذا الغريب ليس باعتباره ذلك المجهول الذي يدخل الى الجماعة و يتطفل عليها، و ليس باعتباره أيضا هذا الغامض و غير المألوف بالنسبة لنا. بل إن الغريب لديها يجب أن نكشف عنه في ذواتنا.تقول في هذا:" ليس الغريب الذي هو اسم مستعار للحقد للآخر ،هو ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها. ولا ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم للجماعة. إن الغريب يسككنا على نحو غريب، إنه القوة الخفية لهويتنا، و الفضاء الذي ينسف بيتنا..."واضح إذن من كلام كريستيفا أن الغريب لا يتحدد في إطار العلاقات البشرية الملموسة بكونه كل من يتطفل على المدينة و يحدث خللا و عدم توازن فيها، و تتجه بذلك الجماعة/ المدينة للقضاء عليه و تدميره من اجل إعادة التوازن و الاستقرار لكن الغريب في تصور هذه المفكرة هو الذي يسكننا على نحو غريب. كيف ذلك؟ تجيب جوليا كريستيفا : إن الغريب هو –النحن- فعندما نكشف عن أنفسنا ندرك أننا غرباء و متمردون على الروابط و الجماعات .فكل جماعة تحمل في ذاتها بحكم اختلافاتها و تناقضاتها الداخلية، غريبها قبل أن يدخل إليها غريب أجنبي.

لمناقشة موقف جوليا كريستيفا استحضر موقف هيجل من علاقة الأنا بالغير باعتبارها علاقة صراع، تذكر جدلية السيد و العبد...

تركيب المحور:

إن الموقف الذي يمكن أن يتخذ من الغير ( البعيد، الأجنبي، المهاجر، الجنس الآخر،المجتمع الآخر، الثقافة الأخرى، الديانة الأخرى...) ليس هو موقف النبذ و الإقصاء و العداء أو الصراع و الحرب...بل هو موقف الحوار و التسامح و الاحترام، أولا لأنه أنا أخر كائن بشري يستحق الاحترام . و ثانيا لأن الحوار مع الغير ( سواء كان فرديا أو جماعيا) يقتضي أن يحتفظ كل واحد منهما بخصوصيته وهويته و تميزه.

----------------------------------------------------------

مفهوم النظرية والتجربة

تقديم المفهوم:

إن الحديث عن النظرية و التجربة يجعلنا نفكر في علاقة مباشرة بين المفهومين، وهي غالبا ما تتميز بالتوتر. فالنظرية تحيل الى كل ما هو عقلي بينما تحيل التجربة على الواقع. إذن كل مفهوم يقابل الاخر ويواجهه و يريد أن يحتويه و ينفيه. فالنظرية عند عامة الناس غالبا ما تعني مفارقة الواقع لذلك اتسمت بمعاني وأحكام التسامي والتعالي والابتعاد عن الواقع. بينما تحضر التجربة في استعمالاتها المتداولة كمرادف للواقع و الممارسة مما يعني حضور التفكير المجرد المتعالي في النظرية ومحدوديته في التجربة.و تعني التجربة في الاصطلاح: ذلك التأمل العقلي، فتصبح النظرية " نسقا من المبادئ و القوانين ينظم معرفتنا بمجالات خاصة. و يتضمن هذا النسق بناءا منطقيا له مكوناته و يخضع لنظام فرضي استنباطي، يسمح للعالم بالانتقال من عنصر الى آخر وفق تراتب صارم"

يطرح هذا المفهوم الأول من مجزوءة المعرفة إشكالية فلسفية مهمة وصعبة، سايرت تاريخ الفلسفة، وهي علاقة النظرية بالتجربة، أو علاقة الفكر بالواقع، أو علاقة الوعي بالموضوع، أو علاقة الذات بالعالم الخارجي، أو علاقة العقلانية التأملية بالعقلانية التجريبية؛ فهل ينبغي اختزال النظرية في محتواها التجريبي كما تزعم النزعات الاختبارية والتجريبية؟ أم يتعين اعتبارها نسقا عقليا رياضيا كما ترى المذاهب العقلانية؟ وما العلاقة بين التجربة باعتبارها انطباعا حسيا بسيطا، والتجريب بوصفه إنشاء لواقعة معينة ضمن شروط علمية؟ ما هي خصائص العقلانية العلمية؟ ما الذي يميزها عن العقلانية الفلسفية الكلاسيكية؟ ما هو دور العقل في بناء المعرفة العلمية؟ وما هي الحدود الفاصلة بين ما هو علمي وما ليس علميا في النظرية؟ وما هي معايير صلاحيتها العلمية؟

المحور الاول: التجربة و التجريب

اشكال المحور: ماهي شروط بلوغ الحقيقة العلمية؟ هل بالتجربة بمعناها الاختباري ؟ ام ان على التجربة ان تنفتح على الافتراضي و الخيالي في معرفة الظواهري؟.

1-موقف كلود برنار:

سينطلق كلود برنار من قواعد المنهج التجريبي في الظواهر البيولوجية ليؤكد على ان الوصول الى الحقيقة العلمية يتطلب توفر مجموعة من الشروط و تحققها.و قد لخص مبادئ و شروط الواقعة العلمية في اربع مراحل اساسية:

*الملاحظة: هي أول خطوة تربط العالم بالموضوع المدروس و هي خطوة حسية تقوم على الاتصال المباشر بين الذات الملاحظة و الموضوع، و الملاحظة الحسية العامية لم تعد كافية، و بالتالي فالملاحظة العلمية اصبحت ملاحظة تقنية مجهزة.

*الفرضية: و هي و هي الخطوة الثانية في المنهج التجريبي، و فيها يقوم العالم بتفسير الظاهرة الملاحظة و يتميز هذا التفسير بالافتراض فقط و تكون الفرضية مؤقتة حتى تثبت التجربة صدقها او خطئها

*التجربة: هي كل الاجراءات التي يمكن بواسطتها من مواجهة فرضية بوقائع، من خلال توفر مجموعة من الشروط المادية لاجرائها، و تقوم على نقل و احداث الظاهرة في المختبر قصد التحقق التجريبي للفرضية. والتجريب هو بمثابة ملاحظة ثانية، لكنها عملية ملموسة بحيث يصنع الباحث ، الظاهرة ميدانيا داخل المختبر، و التجريب هو المساءلة المنهجية للظاهرة المدروسة.

* القانون: هو بمثابة استخلاص النتائج التي يقوم بقرائتها و تأويلها و الخروج بخلاصات تكون على شكل علاقات تعكس نتائج عمله في صيغة معادلات رياضية.

ما يمكن ان نستنتجه من موقف برنار هو ان الواقع المادي الاختباري يبقى المحدد الاساسي لمصداقية النظرية، لان الملاحظة في لحظة التجريب تُسجل الواقائع كآلة تصوير وبدون فكرة مسبقة.

لقد حاول اذن كلود برنار أن يوظف المنهج التجريبي على الظواهر الطبيعية و الفيزيائية، وإن نقل هذا المنهج من دراسة المادة الصلبة الى مجال تتناول المادة الحية سيواجه صعوبات منهجية.

2-موقف روني طوم:

 سيميز روني طوم بين الملاحظة البسيطة والتجربة العلمية: ففي الملاحظة البسيطة يتم عزل الظاهرة المدروسة عن باقي الظواهر الطبيعية في المختبر، فهي تقتصر على الرؤية فقط على عكس التجربة العلمية التي حددها كتدخل في المنظومة المدروسة، و اعدادها للحصول علة واقعة تجريبية. و يطرح روني طوم مجموعة من الخطوات للقيام بتجربة علمية لخصها كما يلي:

*توفير مختبر أي المجال الزمكاني للقيام بالتجربة وهو واقعي أو خيالي

*توفير المواد اللازمة للقيام بالتجريب

* التأثير في الظاهرة المدروسة بواسطة عناصر مادية و طاقية

* تسجيل نتائج التجريب بالاعتماد على اجهزة

هذه هي اهم الاجراءات التي يجب على العالم الالتزام بها في دراسته التجريبية. غير انه يشترط في التجربة لكي تكون علمية أن تكون قابلة لإعادة إجرائها و الحصول على نفس النتائج التي يتم التوصل اليها في تجربة سابقة. و يشترط ايضا ان تثير اهتماما ذو طبيعة علمية و ان تكون مفيدة . و ان كان المجرب يفسر الواقعة العلمية من خلال الفرضيات ن فان التجربة هي مرحلة مهمة للتحقق من تلك الفرضيات التي وضعها. لذلك يعتقد روني طوم أن التجريب غير كافي لمعرفة الاسباب و القوانين التي تحكم الظواهر، بل لابد من التفكير العقلي ، و هذا ماسماه "بالتجربة الذهنية أو الخيالية" اذ ان التجريب اذا اقترن بالاستدلال العقلي الرياضي يكون قادرا على استكشاف وفهم الظواهر. خاصة بعد التطور الذي عرفه العلم و وجود ظواهر ميكروفيزيائية لا يمكن رؤيتها بالمجهر و بالأحرى التجريب عليها، لذلك يلجأ الباحث الى التجربة الخيالية.

المحور الثاني: العقلانية العلمية:

اشكال المحور: ما هي خصائص العقلانية العلمية؟ ما الذي يميزها عن العقلانية الفلسفية الكلاسيكية؟ ما هو دور العقل في بناء المعرفة العلمية؟

تحديد العقلانية العلمية: العقلانية هي منهج في دراسة الظواهر، هي منهج العقل وطريقته في تناول الأشياء، لذلك تختلف العقلانيات باختلاف المواضيع وطرق تناولها.

في هذا المحور سنتناول الاختلاف الحاصل بين العقلانية الكلاسيكية باعتبارها عقلانية مغلقة والعقلانية العلمية المعاصرة بتوجهاتها.

1- العقلانية المبدعة عند أينشتاين:

ينتمي أينشتاين الى الموقف العقلاني الخالص الذي ينظر الى النظرية كإبداع حر للعقل البشري، فالبناء الرياضي لديه قادر على اكتشاف المفاهيم والقوانين، وبالتالي انشاء النظرية، لان الرياضيات أو ما يسميه أينشتاين بالفكر الخالص هو اساس كل نظرية علمية و بالتالي فبإمكان المنهج الرياضي الاستنبطاني ان يقود الى فهم دقيق للظواهر المدروسة. ان اهتمام العالم الفيزيائي أينشتاين بالعقل لا يمنعه من الاهتمام ايضا بالتجربة اذ يحصر دورها في مساعدة العقل في اختيار المفاهيم الرياضية. يقول أينشتاين: "ان العقل يمنح النسق بنيته، اما معطيات التجربة و علاقاتها المتبادلة فيجب ان تكون مطابقة تماما لنتائج النظرية "غير ان التجربة ليست هي المنبع الذي تصدر عنه النظرية بل المبدأ الخلاق الحقيقي يوجد في الرياضيات".

2- موقف التجريبي الوضعي: نموذج رشنباخ:

ينظر رايشنباخ الى المعرفة العلمية باعتبارها معرفة معقولة وليست عقلانية. فهو ينفي صفة العقلانية عنها. لأنها تدل عنده على ذلك المذهب الفلسفي الذي يعتبر العقل وحده مصدرا للمعرفة المتعلقة بالواقع دونما حاجة إلى الملاحظة والتجربة، ويصفها بالمعقولة لأنها تستخدم العقل مطبقا على المادة التجريبية التي تمدنا بها الملاحظة العلمية.

لقد رفض رايشنباخ أن يكون العقل قادرا لوحده على إنتاج معرفة بالواقع الفيزيائي. ولذلك فهو ينتقد النزعة العقلانية الرياضية التي تعتقد أن للعقل قوة خاصة به يستطيع بواسطتها اكتشاف قوانين العالم الفيزيائي، و هي بمثابة النزعة الصوفية لان كلاهما يستغني عن الملاحظة التجريبية.

إن الملاحظة التجريبية عند الفيلسوف الوضعي رايشنباخ هي المصدر الوحيد للمعرفة العلمية المتعلقة بالواقع، أما دور العقل المنطقي والرياضي فيقتصر على القيام بوظيفة تحليلية لتلك المعرفة. و بالتالي فالمعرفة العلمية معقولة لأنها تستخدم العقل مطبقا على مادة الملاحظة، لكنها ليست عقلانية لانها لا تعطي الاولوية للعقل في إنتاج المعرفة بل تمنح ذلك للملاحظة والتجربة.

3- الموقف التركيبي: غاستون باشلار:

يرى باشلار ان التطور العلمي الذي شهدته الفترة المعاصرة أدى الى اعادة النظر في العقلانية الكلاسيكية التي تنظر الى العقل كبنية ثابتة ومغلقة. إن العقل الانساني في مفهومه الجديد مع باشلار يوجد في جدلية مع المعرفة التي ينتجها. فالاستجابة لمعطيات الثورة العلمية المعاصرة لا يستحمل القول بعقل يفكر و ينتج المعارف فقط، بل يجب تصور العقل في تغير مستمر في بنيته وهو يفكر. لذلك تسمى عقلانية باشلار "بالعقلانية المطبقة" يقول :"هذه العقلانية الفعالة تتعارض مع الفلسفة التجريبية التي تنظر إلى الفكرة كما لو كانت تلخيصا للتجربة " يعني هذا ان العقلانية العلمية اصبحت اكثر انفتاحا و هذا ما جعل كاستون باشلار يؤكد على ان تاريخ العلم هو تاريخ لاخطائه. لذلك نجده يدافع على "القطيعة الابستمولوجية" التي تعبر عن نسبية المعرفة العلمية في تكوينها. فإذا كانت كل مرحلة علمية تبرز كحقيقة علمية جديدة وكصواب علمي. فان ذلك يقتضي احداث قطيعة ابستمولوجية مع المرحلة السابقة، و التي تصبح عبارة عن اخطاء و عوائق ابستمولوجية امام تقدم المعرفة العلمية . لذلك يجب على العلم تجاوز هذه العوائق. مما يجعل المراحل العلمية في تصور باشلار مجرد مراحل مؤقتة تنتظر ان يتم تجاوزها من طرف معارف علمية جديدة و هكذا دواليك .مما ينفي وجود بنية نهائية للفكر العلمي.

الحمور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية:

اشكال المحور: ماهي معايير النظريات العلمية؟ ماهي اسس صدق و صلاحة النظريات العلمية؟ هل تكمن في التحقق التجريبي ام في القابلية للتفنيذ؟

1- معيار تعدد الاختبارات: توليي نموذجا:

يرى توليي ان معيار العلمية يكمن في تنوع الاجراءات التجريبية للنظرية العلمية، لأنه لا توجد نظرية علمية تمنح نفسها وحدها نتائج ملموسة. و التجربة العلمية لا تتم بدون مساعدة نظريات اخرى. يعني ان النزعة التجريبية تخرج النظريات العلمية من انغلاقها عبر الانفتاح على الفروض الجديدة من خلال اضافة فروض جديدة، بحيث إن التحقق التجريبي لا يكفي لتحقق علمية النظريات العلمية.

2- معيار التفنيد والتكذيب: كارل بوبر نموذجا:

يعني هذا المعيار القيام اخضاع النظريات العلمية للتكذيب والتفنيد حتى و ان لم تكذب فعلا، يعني ان تترك كل نظرية علمية زاوية منها من اجل التكذيب و التزييف، اي البحث عن وقائع أو انشاء تجارب تكذبها، و هو ما يسمى بمعيار القابلية للتكذيب، بمعنى يجب البحث عن تكذيب النظرية العلمية و ليس عن تحققها. يدرج كارل بوبر مثال كل الغربان سود ليس حكما نهائيا، ما ادرانا ان نجد غرابا ابيضا في القطب الجنوبي. اذن رؤية غراب ابيض كاف لتكذيب القضية.

تمارين:

- اكتب تركيبا للمحور

-قارن بين موقفي توليي وكارل بوبر

-ماهي حدود مبدأ التحقق التجريبي

-----------------------------------------------

مفهوم الحقيقة:

تقديم المفهوم:

يمكن اعتبار مسألة الحقيقة مفتاحا لكل القضايا الفلسفية كيفما كان نوع الموضوع الذي يبحث فيه الانسان. فان سؤال الحقيقة يظل حاضرا فيه بقوة. إضافة الى ذلك فان البحث عن الحقيقة هو مطلب اساسي في كل معرفة سواء في العلوم الحقة أو في العلوم الانسانية، و في الكثير من الفعاليات الانسانية. من هذه الاهمية البالغة لهذا المفهوم في حياة الانسان. تنفي كونه ليس واضحا تماما، و إن الكثير من التساؤلات التي طرحت حوله منذ ظهور الفلسفة لازالت في حاجة الى تأملن بل ان تطور و تعقيد الحياة الانسانية المعاصرة، ولد قضايا و تساؤلات جديدة صار من اللازم التفكير فيها بامعان.نتيجة لهذا فإن دراستنا لمفهوم الحقيقة في هذا الدرس ستكون ايجابية جدا. للاقتراب اكثر من بعض القضايا الاسايسية المعلقة به. مادام تناولها كلها بعمق غير متاح لنا فاننا سنكتفي بدراسة اشكالات محددة تؤطرها المحاور الاتية:

-المحورالاول: الرأي و الحقيقة

-المحور الثاني: معايير الحقيقة

-المحور الثالث: قيمة الحقيقة

المــــــحور الاول: الرأي والحقيقة:

قبل عرض الاشكالية المتعلقة بهذه المحور سنحدد مفهومي الراي و الحقيقة:

يحيل لفظ الراي الى انطباع او تمثل شخص ينتجه الفرد انطلاقا من ادراكه المباشر للاشياء عن طريق الحس في اغلب الاحيان، لذلك يعبر عن التجربة العامة المشتركة بين الناس. مثال: يرى شخص ما أن الهجرة الى الخارج مفيدة...لا لأنه قد تحقق من ذلك اعتمادا على دراسات موضوعية، بل لانه يعبر عن الانطباع السائد عند غيره من الناس....يقول لالند: "الرأي هو حالة ذهنية تثمثل في الاعتقاد بصحة قول ما لكن مع القبول بامكانية الخطأ أثناء حكمنا هذا" أما لفظ حقيقة فإنه يعني في اللغة العربية "الشيء الثابث قطعا و يقينا، يقال حق الشيء إذا ثبت، و هي اسم الشيء المستقر في محله، وبه الشىء هوهو كالحيوان الناطق للانسان" الجرجاني: "التعريفات".يحيل لفظ حقيقة اذن الى ماهو ثابث و يقيني وجوهري( يقابل لفظ حقيقة المجاز و العرض). أما في الفلسفة فان لهذا عدة استعمالات تركزت مجملها في الفلسفة الحديثة و المعاصرة في مجال اللغة و الفكر. يقول لايبنز "هناك نوعان من الحقائق: حقائق تتعلق بالاستدلال العقلي، حقائق ضرورية و نقيضها غير ممكن بل مستحيل، و الحقائق المتعلقة بالواقع هي حقائق جاهزة نقيضها ممكن".

بعد تحديدنا لهذين المفهومين نتساءل: ما طبيعة العلاقة بين الرأي والحقيقة هل هما مترابطين مع بعضهما؟

يمكننا عرض موقفين متباينين حول هذه الاشكالية:

يرى الأول أن العلاقة بين الرأي و الحقيقة هي علاقة اتصال و استمرار، حيث إن الرأي يقع في اصل كل معرفة و حقيقة، مادام التوصل الى هذه الاخيرة لا يتم عن طريق العقل وحده، بل تتدخل عوامل أخرى كثيرة في بلورتها من ضمنها الحواس و القلب، والعواطف و الاراء. بل إن العقل يعتمد اساسا على هذه العوامل من أجل الوصول الى الحقيقة. لقد دافع عن هذا الموقف باسكال الذي يعتبر تصوره نقداً ومحاولة لمجاوزة النزعات الشكية التي تدعي استحالة الوصول الى الحقيقة، و النزعات العقلانية التي بالغت في تقدير دور العقل في بلوغ الحقيقة (نموذج ديكارت). يقول باسكال: "نعرف الحقيقة لا بواسطة العقل فقط، ولكن أيضا بواسطة القلب" ان القلب عند باسكال يمكننا من معرفة المبادئ الأولى مثل المكان و الزمان و الحركة و الاعداد، وهذه المبادئ أكثر صحة من النتائج التي يتوصل اليها العقل عن طريق استدلالاته. يقول باسكال "يشعر القلب ان هناك ثلاثة ابعاد في المكان و ان الاعداد لانهائية، و بعد ذلك ياتي العقل ليبرهن...من المثير للسخرية أن يطلب العقل من القلب البرهنة على مبادئه الاولى حتى يتوافق معها، ومن المثير للسخرية أيضا أن يطلب القلب من العقل أن يشعر بجميع القضايا التي يبرهن عليها حتى يتلقاها منه".

واضح إذن مع باسكال ان الوصول الى الحقيقة ممكن عن طريق القلب ومن تمة فإن الراي يمكن ان يكون حقيقة. ورغم أن هذا الموقف هو نقد للنزعات الشكية كما اشرنا الى ذلك من قبل، إلا أنه يلتقي معها عند تأكيده على القلب كمعيار ووسيلة فردية للوصول الى الحقيقة هنا نستحضر القولة الشهيرة لبروتاغوراس:"الانسان مقياس كل شيء"و التي تفيد ان الحقيقة محددة برأي الفرد وموقفه الشخصي. يمكننا استحضار ايضا (التصورات الصوفية و الحدسية حول مفهوم الحقيقة مفاهيم العشق، المشاهدة).

خلافا للتصور السابق يرى الكثير من الفلاسفة وجود انفصال وقطيعة بين الرأي والحقيقة. سنوضح هذا التصور انطلاقا من الفلسفة والعلم.

في المجال الاول اعتبرت الفلسفة نفسها منذ نشأتها خطابا عقليا امتياز، لذلك ناهضت الرأي (الدوكسا عند اليونان) و كل اشكال التفكير غير العقلاني. ولعل محاورات افلاطون تقدم لنا نموذجا واضحا لذلك: تذكر نقد افلاطون للسفسطائية، استحضر موقفه من العامي في مقابل الفيلسوف، تذكر مثال الكهف....اما الفلسفة الديكارتية فإنها في مجملها محاولة لتأسيس معرفة عقلانية و علمية تقوم على قواعد يقينية و بسيطة. لنتأمل هذا النص الديكارتي من كتابه التأملات:" كان علي أن اقوم مرة واحدة في حياتي بالتخلص من كل الآراء التي تلقيتها و صدقتها الى ذلك الوقت، و ان أبدأ كل شيء من جديد ابتداء من الاسس، و ذلك اذا كنت اريد ان اقيم قدراً من اليقين الصلب و التابث في المعارف و العلوم" لاحظ هنا الموقف الديكارتي السلبي من الآراء...(راجع المحور الثاني من هذا الدرس).

إن اقامة الحقيقة إذن عند ديكارت يتطلب التخلص من الآراء الكاذبة و اللايقينية. هذا الموقف الذي تبناه ديكارت نجده ايضا عند الكثير من الفلاسفة الآخرين الذين اكدوا على ضرورة مجاوزة الآراء لأنها وحدها لا تقود الى الحقيقة. يرى كانط مثلا ان للاعتقاد ثلاثة درجات هي الرأي و الايمان و المعرفة لكنه يؤكد انه" ليس هناك أي مجال للرأي بخصوص الاحكام التي تصدر عن العقل الخالص" و يضيف" من العبث تكوين آراء في مجال الرياضيات الخالصة"(كانط نقد العقل الخالص).

انسجاما مع هذا الموقف الفلسفي من الراي و الحقيقة نستطيع التأكيد من مجال العلم و الابستمولوجيا مع المهتمين بهذين المجالين على وجود انفصال بين الرأي و الحقيقة، فباشلار مثلا يرى أن المعرفة العلمية تتأسس على الانفصال و القطيعة بين الحقيقة و بادئ الرأي لأن العلم يناقض الراي و الحس المشترك، يقول باشلار:"إن العلم يتعارض تعارضا مطلقا مع الرأي...إن الرأي من الناحية المبدئية هو دوما خاطئ" (استحضر بعض الامثلة من تاريخ العلم). هذا الموقف السلبي من الراي في العلم يجد مبرراته حسب باشلار في كون الرأي يفكر تفكيرا ناقصا بل في كونه لا يفكر، إذ يعبر عن حاجات معرفية فقط" حيث يهتم بفائدة الموضوعات و نفعها و نتيجة لذلك يعتبر باشلار الرأي عائقا ابستمولوجيا امام تقدم المعرفة العلمية ومن ثمة يجب القضاء عليه باعتباره" العائق الأول الذي يتعين تجاوزه في مجال المعرفة العلمية" لان تقدم العلم يقتضي عدم الاكتفاء بالانطباعات الاولية للمعرفة العلمية والحرص على تأسيس معرفة يقينية لانه على حد تعبير باشلار" لاشيء في العلم يسير بديهيا من تلقاء ذاته، لا شيء معطى، بل إن كل شيء فيه منشأ و مبني" لفهم هذه الموقف استحضر امثلة من تاريخ العلم".

يتضح من خلال ماسبق بالنسبة لهذا التصور الثاني ان الحقيقة منفصلة عن الراي و لذلك فهي ليست في متناول كل الناس بل ان الوصول اليها هو من اختصاص العلماء و الفلاسفة. هذا الاستنتاج يدفعنا الى طرح تساؤلات اخرى هامة تتعلق بكيفية الوصول الى الحقيقة و معيار ذلك. هذا ما سنفكر فيه في المحور القادم.

المـــــــــــــحور الثاني: معايير الحقيقة:

نقصد بالمعيار ذلك المقياس او النموذج الذي نقيس به الاشياء والافكار، قصد اصدار حكم عليها فنقول عنها إنها صادقة او كاذبة، موجودة ام غير موجودة. وعندما نتحدث عن معايير الحقيقة فان التساؤل الذي يطرح بإلحاح هو: ما هو معيارها هل هو مادي ام منطقي؟

نشير اولا الى تعدد امكانيات مقاربة هذه الاشكالية اذ نستطيع الانطلاق في تحليلنا من مسألة الحقيقة و الواقع فنتحدث عن افلاطون" الحقيقة موجودة في عالم المثل" وأرسطو "الحقيقة موجودة في العالم المادي"....و غيرهما ...لكننا سنكتفي ببعض الاشارات عن الموقف الديكارتي من هذه المسألة. ثم سنتحدث عن تصور اسبينوزا، لنشير في عجالة الى الموقف المعاصر من مسالة معيار الحقيقة عند هايدغر.

يرى ديكارت ان الحقيقة لا وجود لها في عالم المثل و لا في العالم المادي بل موطنها الاساسي هو الفكر ولا وجود لحقيقة خارج الذات، لذلك يجب الاعتماد على معيار الحدس والاستنباط قصد الوصول اليه. و يعني الحدس عنده إدراكا أوليا فطريا يتم دفعة واحدة وبطريقة مباشرة وهو تصور بسيط لامجال للشك فيه لانه صادر عن ذهن يقظ أي عن نور العقل وحده و لادخل للحواس في بلورته.هذا الحدس يجب ان يكون مصحوبا بعملية استنباط يقود الى الحقائق الاولى او البدهيات.ان الادراك الحدسي عند ديكارت يقع على الموضوعات أو الافكار التي تتميز بصفتين هما الوضوح و التميز، فالفكرة الواضحة تدرك دون وساطة لانها فكرة صادقة و مميزة. و النوذج البارز للافكار الحدسية عند ديكارت و التي تدرك بشكل مباشر هو الكوجيطو الديكارتي" انا افكر، إذن انا موجود" حيث ان هذه الفكرة لا تتطلب تحليلا رياضيا او تجريبيا قصد تاكيد صدقها و يقينها لانها صاديقة بالبداهة، و نفس الشيء يقال عن افكار اخرى من قبيل: الكل اكبر من الجزء، ضرورة الامتداد بالنسبة للاجسام...

يتميز الحدس عن الاستنباط عند ديكارت بكون هذا الاخير يتكون من مراحل يتلو بعضها بعضا، ولذلك فان الحقائق المتوصل اليها بالاستنباط تكون متتالية(نموذج المعرفة الرياضية) اما الحقائق القائمة على الحدس فهي ليست بالضرورة متتالية و متصلة، لذلك فان الحقيقية يكون مصدرها الحدس ثم الاستنباط باعتبارهما أساس المنهج المؤدي الى الحقيقة و يميزها عن الخطأ( تذكر خطوات المنهج الديكارتي: البداهة، التحليل، التركيب، المراجعة).( تذكر ايضا حضور الحدس عند المتصوفة وعند بعض الفلاسفة نموذج برغسون).

إذا كان معيار الحقيقة عند ديكارت هو الحدس العقلي، فإن لايبنز(1646-1716) سيعترض على قاعدة البداهة الديكارتية الي تعتبر اننا لا نقبل الافكار على انها حقيقة إلا إذا كانت واضحة و متميزة، فهذا المعيار في تصوره لا يمكن الاعتماد عليه لانه يتميز بالذاتية. فهو يقول في ذلك:" لقد سبق ان اشرت الى ضعف القاعدة الشهيرة التي يتم الاعتماد عليها في كل مناسبة، وهي الا نقبل سوى الافكار الواضحة و المتميزة، اذا لم نحدد مؤشرات قوية لكلمتي واضحة و متميزة غير تلك التي اعطاها ديكارت". هذا المعيار لدى لايبنز يتحدد من خلال اعتبار تمثل فكرة ما، يصاحبه احساس بطابعه اليقيني، لكن كل واحد منا عاش تجربة بداهات خادعة و مضللة. فكيف يمكن ان نميز البداهات عن اشباهها؟

يجيب لايبنز ان معيار الفصل بين ماهو حقيقي وما هو غير حقيقين او بين الصواب و الخطأ، هو المنطق و البرهان، أي أنه لا ينبغي ان نقبل أي شيء على انه حقيقة مالم يكن مبرهنا عليه بشكل سليم، سواء على المستوى الصوري و الشكلي للمعرفة، او على المستوى محتوى ومضمون المعرفة أي مادتها.

رغم اهمية موقف لايبنز الا ان اسبينوزا يرى ان الحقيقة هي معيار ذاتها لانها لا تحتاج في تاكيدها الى الشك او البرهنة كما فعل ديكارت، مادامت مؤسسة على البداهة.إن الحقيقة عند اسبينوزا هي بمثابة نور هو معيار ذاته وهو المعيار الذي ندرك بواستطه حقيقة الظلام وكذلك الحقيقة، حيث اننا نعرفها و بذاتها نعرف الخطأ، يقول اسبينوزا:" ماهو الشيء الذي يمكنه أن يكون أشد وضوحا و بداهة من الفكرة الصحيحة حتى يكون معياراً للحقيقة؟ فكما ان بانكشاف النور ينقشع الظلام، فالحقيقة أيضا إنما هي معيار ذاتها و معيار للخطإ"( اسبينوزا: الاخلاق).

نستنتج من حديثنا عن تصور ديكارت و اسبينوزا عن معيار الحقيقة أنهما معا حاولا مجاوزة التصور التقليدي الذي ساد حول هذا المعيار منذ ارسطو و الذي اختزله في المطابقة مع الواقع المادي( تذكر مفهومي الجوهر و العرض عند ارسطو). هذا الموقف الذي تبناه هذان الفيلسوفان حاول كانط تطويره عندما وجه نقده للفلسفتين العقلانية و التجريبية، و اكده على اهمية المعيار الكوني الصوري للحقيقة في مقابل رفضه لوجود معيار كوني ومادي للحقيقة( راجع نص كانط في الكتاب المدرسي).

رغم اهمية هذه المحاولة الكانطية فإنها حسب هايدغر لم تتمكن من تجاوز الاطار العام للتصور الكلاسيكي حول معيار الحقيقة و الذي دأب على ربطها بمفهوم المطابقة، لذلك رفض هيدغر هذا المبدأ مؤكدا ان المطابقة لا تكون الا بين شيئين متماثلين في الشكل والطبيعة، ولذلك لا يمكن الحديث عن مطابقة بين الفكر و الواقع لانهما من طبيعتين متباينتين. مقابل ذلك يعلن هيدغر ان" ماهية الحقيقة هي الحرية".

نؤكد بعد حديثنا عن معايير الحقيقة أن ادراك اهمية و أبعاد هذه المسألة لن يتحقق الا باستحضار قضايا اخرى اساسية ابرزها قيمة الحقيقة. وهذا ما سيحققه لنا المحور الاخير من هذا الدرس.

المــــــــــحـــــور الثالث: الحقيقة بوصفها قيمة.

ننطلق في هذا المحور من اشكالية اساسية هي: هل تتحدد اهمية الحقيقة باعتبارها غاية في ذاتها ام باعتبارها مجرد وسيلة؟.

يمكننا التمييز بين موقفين متعارضين حول هذه الاشكالية: الاول يؤكد ان الحقيقة هي غاية وتبنته الفلسفة الكلاسيكية بصفة عامة. بينما يؤكد الموقف الثاني ان الحقيقة هي وسيلة وقد عبرت عنه بوضوح الفلسفة البرغماتية. في الفقرات التالية سنحدد بعض معالم هذين التصورين مركزين على كل من كانط ووليم جيمس.

يعني قولنا: ان الحقيقة هي غاية في ذاتها، اننا ينبغي ان نسعى اليها في حد ذاتها باعتبارها قيمة فكرية واخلاقية منزهة عن المنفعة والمصلحة، أي انها ليست وسيلة، و يعد الفيلسوف الالماني كانط( 1804-1724) خير مدافع عن هذا التصور حول الحقيقة، إذ يرى ضرورة احترامها و تقديرها لذاتها استجابة للمبدأ الاخلاقي، يقول كانط" إن قول الحقيقة واجب يتعين اعتباره بمثابة أساس و قاعدة كل الواجبات التي يتعين تأسيسها و إقامتها على عقد قانوني، ولان القانون إذا ما تسامحنا فيه ولو بأقل استثناء ممكن، فإنه يصبح متذبذبا ومبتذلا (استحضر الامثلة المناسبة لشرح هذه القولة) من هذا المنطلق فإن الكذب مرفوض حسب كانط ف كل الحالات حتى و إن حتمته المصلحة الشخصية للفرد، إن قول الحقيقة مرتبط بالتضحية من أجل الحقيقة، او من الموت من أجلها( تذكر تجربة سقراط و غاليلي).

إذا كان كانط يربط الحقيقة بمجالها الاخلاقي ويعتبرها كقيمة اخلاقية تطلب لذاتها، كحقيقة موضوعية و شمولية و انسانية مطلقة و نزيهة و بعيدة عن مصالح الناس الخاصة واهوائهم. وإذا كان يربطها بالواجب الاخلاقي غير مشروط فإن التصور النفعي مع وليم جيمس سيتجاوز هذا الموقف المثالي لكانط حول الحقيقة، الذي يذهب الى ان لا وجود لحقيقة مطلقة في ذاتها، على نحو ما ذهبت اليه الفلسفات المثالية، وليست الحقيقة مجرد نسخة ثانية من الواقع تربط بين الذات والموضوع كما عند الواقعيين. ولكن الحقيقة هي التصور الذي يؤدي بنا الى تحقيق غرض نافع، وبالتالي الاحساس بالرضا. لذلك تستمد الحقيقة قيمتها من فائدتها العملية، فالأفكار تكتسب طابع الحقيقة من خلال تأثيرها على النشاط الذي يبذله الانسان، ومن خلال الآثار العملية التي تنتج عنها، حتى أن الحقيقة مجرد وسيلة لإشباع حاجات حيوية، لذلك فهي لا تكمن في المبدئ والنظريات بقدر ما توجد في النجاح في الممارسة والعمل. قول وليم جيمس" إن الفكرة تصبح حقيقة و صادقة حينما يثبت بالتجربة أنها فكرة صالحة و مفيدة" لا يشترط وليم جيمس ان يكون تحقيق فكرة ما تحقيقا مباشرا، فهو يعتبر ان التحقيق غير المباشر دليل على صدق الفكرة و يمكن من الاقتصاد في المجهود، فيكفي ان نتحقق من ان فكرة ما صدقت على احد افراد النوع لكي تنطبق هذه الفكرة على باقي افراد هذا النوع دون اللجوء في كل مرة الى التحقق منها (استحضر امثلة على ذلك).

طبعا سيبدو ان موقف وليم جيمس موقف ايجابي لكن هذا لا يعني انه سيواجه انتقادات، تكمن في تصوره لنسبية الحقيقة واختلافها باختلاف مصالح الافراد والجماعات ورغباتهم. فاذا كانت الحقيقة هي ما ينفعني على مستوى عملي. فإنها قد تكون مضرة للآخرين ومن ثمة لا تكون حقيقة. غير ان الفيلسوف الفرنسي برغسون يعمل على شرح موقف جيمس من الحقيقة ليؤكد أن الامر لا يتعلق بإقرار نسبية الحقيقة بهذا المعنى اللاأخلاقي، بل يتعلق الامر بتقديم بديل للمفهوم التقليدي للحقيقة، وهو اعتبار الحقيقة استباقا للمستقبل واستعدادا له. لكن هذا التأويل البرغسوني لتصور وليم جيمس حول نفعية الحقيقة لا يلغي البعد اللاأخلاقي لربط الحقيقة بالمنفعة، لان هذا سيؤدي الى ارتكاب الشرور ضد الاخرين ان كان في ذلك نفع وفائدة باسم الحقيقة.

*اكتب تركيبا عاما للدرس

مفهوم العنف

تقديم:

يبدو أن مظاهر العنف كثيرة، فهو يمارس بأشكال متنوعة. هناك العنف الفيزيائي من ذلك مثلا القتل والاغتيال، لكن هناك العنف السيكولوجي أو الأخلاقي، مثل التعذيب عن طريق العزل. كما يوجد العنف الاقتصادي من خلال استغلال الطبقات أو البلدان الضعيفة...يبدو ان هذا التعدد في اشكال العنف و مظاهره يثير الكثير من التساؤلات. لذلك يمكن أن نجمع بشكل أولي أن العنف يوجد كلما كان هناك إلحاق للأذى بالغير بصفة جسدية أو نفسية.

وقد ركز أندري لالاند على تحديد مفهوم العنف، على انه «فعل، أو عن كلمة عنيفة». وهذا ما يدخل في نطاق العنف الرمزي…فأول سلوك عنيف هو الذي يبتدئ بالكلام ثم ينتهي بالفعل. وهكذا فتحديدات العنف تعددت واختلفت، إلا أنه يمكن الاجماع على أنه سلوك لا عقلاني، مؤذي.(يمكنك استحضار التعاريف المرفقة حول العنف)

سنجيب في هذا الدرس على مجموعة من الاشكالات:

ماهي اشكال و طبيعة العنف التي عرفها تاريخ الانسان؟ مادور العنف في التاريخ؟هل يمكن الحديث عن عنف مشروع وعنف غير مشروعية ؟من أين يستمد العنف مشروعيته؟

المحور الأول: أشكال العنف

اشكال المحور: أفرز التاريخ الانساني أشكالا متعددة من العنف، يمكن أن نميز ضمنهما بين نوعين، هما: العنف الجسدي و العنف الرمزي. كلاهما يمارس بطرق و وسائل متعددة تتطور باستمرار بقدر تطور العلم و التقنية. و ليس بديهيا أن تكون هذه الأشكال دائما ظاهرة، ذلك ن أن أن العنف يتحقق أيضا من خلال أشكال متخفية. اذن ماهي اشكال العنف؟ هل تقتصر على العنف المادي الفيزيائي أم هناك أشكالا اخرى من العنف الخفي الرمزي ؟

1 - العنف المادي/الفيزيائي:

يرى الفيلسوف الفرنسي إيف ميشو ان المجتمعات الانسانية تطفح باشكال عديدة من العنف تبدأ من اكتر الأشكال اختفاء في المجتمع مثلما هو الأمر في " نقص التغذية" إلى اكثرها ضراوة كما الحال في "الاعدامات". و يرى أن إنتاج وسائل العنف يشمل" وسائل التسليح الفردي كما يشمل وسائل التخريب الجماعي". فتطور التكنولوجيا ساهم في تطوير وسائل هذا العنف المادي مستفيدا من تحول هذه الوسائل إلى سلع تخضع ككل سلعة إلى مبدأ الربح في إنتاجها وتبادلها، وهكذا عملت التجارة الدولية للأسلحة على نشر وسائل العنف وجعله أكثر تخريبا وفتكا، وفي متناول كل الأفراد والجماعات. كما ساهم التقدم التقني في تطوير الآلات والأسلحة المستخدمة في العنف، مما جعل هذا الأخير مختلفا عما كان عليه في السابق، سواء من الناحية الكمية أو من الناحية الكيفية والنوعية.و بما أن هذه الوسائل أصبحت في متناول الكل( أفرادا، جماعات، دولا)، فإن العنف يصير أكثر فتكا. كما أنه أصبح أكثر اتصالا بالإعلام، على اعتبار أن هذا الأخير يسخره عن طريق نشره أو السكوت عنه. و يخلص إيف ميشو إلى أن:" تطبيق التقدم التقني و العلمي على استعمال العنف و على كيفية تدبيره يمكننا من فهم:

أ- الفعالية المضاعفة التي تم التوصل إليها فيما يخص أشكال التحطيم و التخريب . فإبادة مجموعة بشرية ما. و إبادة مزروعات، و تهديد حياة الملايين من الناس تتطلب وسائل و تنظيما لم يسبق له مثيل.

ب- من حيث إن العنف أصبح قابلا للحساب و التحكم فإنه يمكن أن يحقق مردودية حيث أصبح من الممكن فرض السيطرة بواسطة التعذيب و القمع و التهديد به"

2-العنف الرمزي: يحدد بييربورديو أشكال العنف في العنف غير المادي والعنف غير المرئي, الصامت والسري من إلحاق الأذى عبر وسائل عدة كاللغة والتربية والإيديولوجيا. والعنف الرمزي يقول بييربورديو "هو عنف يمارس على فاعل اجتماعي بتواطؤ منه "إن هذا العنف الرمزي عنف ناعم و لطيف و لين و معتدل, لكنه مقنع, يمارس بمباركة و موافقة من يقع عليه و يشكل موضوعا له انه عنف يقول بورديو" لطيف و عذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة للضحايا انفسهم, وهو عنف يمارس عبر الطرق و الوسائل الرمزية الخالصة أي عبر التواصل، و تلقين المعرفة، و على وجه الخصوص عبر عملية التعرف و الاعتراف, او على الحدود القصوى للمشاعر و الحميميات". فهذا النمط من العنف ليس موجها لوشم الأجساد بالندوب الغائرة و إنما هو موجه لوشم العقول و الأرواح .وقد نجه في خطاب السلطة او الخطاب الأبوي الآمر أو كلام الأستاذ كما في الحقل الأكاديمي التربوي. وبالتالي فهو سلسلة من الإكراهات التي تمارس عبر قنوات عدة تصبح فيها هذه الممارسة العنيفة شرعية من الناحية الاجتماعية وأي نشاط تربوي هو موضوعيا نوع من العنف الرمزي وذلك بوصفه عنف لطيف وغير محسوس.

المحور الثاني: العنف في التاريخ

اشكال المحور: كيف يتولد العنف في التاريخ البشري؟ هل يمكن ان نتحدث عن تاريخ بدون عنف؟ أم أن العنف على العكس من ذلك عنف ملازم ومحايث للتاريخ الإنساني بل وصانع له ايضا؟.

يتصور هوبز أن الإنسانية مرت بحالة الطبيعة قبل ولوجها حالة الاجتماع. ولما كان العدوان والحذر والتنافس غالبا على طبيعة الإنسان لدرجة تجعل منه ذئبا لأخيه الإنسان، فإن حالة الطبيعة المذكورة، وفي غياب سلطة عليا، تتحول إلى حالة حرب الكل ضد الكل، أي حالة من العنف المعمم الذي يحول حياة الإنسان إلى حياة حيوانية بئيسة لا ينعم فيه أحد بالأمن والأمان مهما بلغت قوته، وحتى في الحالة التي يهدأ في الاقتتال ظاهريا فإنه يظل مخيما على شكل إرادة صراع واضحة ومؤكدة، وكحل للحد من هذا العنف الذي عرفه الانسان في حالة الطبيعة جاء الاجتماع و الدولة كخيار قسري للخروج من هذه الحالة ، فيكون العنف بذلك مؤسسا للتاريخ إذا افترضنا أن هذا الأخير لا يبدأ إلا مع الاجتماع و المؤسسات والدولة.

و ينظر فرويد عالم النفس النمساوي ومؤسس نظرية التحليل النفسي إلى ان العنف ملازم للتاريخ البشري باعتباره يتخذ صبغة النزوع العدواني الفطري و الغريزي للإنسان سواء كان هذا العنف متجها نحو الذات"المازوشية"أو متجها نحو الآخرين و الأشياء الخارجية "السادية", ويكون هذا النزوع العدواني فرديا و جماعيا مما يترتب عنه غزوات وهجرات واستيلاء وتهديد بالدمار والانهيار. ويوضح لنا "فرويد" من خلال مفهوم اللاشعور الذي يعتبر منبع المكبوتات العدوانية والبيولوجية أن الإنسان ليس سيد نفسه بل يظل يتصرف تحت سيطرة الميولات النظرية و الغريزية و العدوانية فيه. أي هناك نزعة تدميرية فطرية داخلية في الإنسان هي التى تجعله دائما كائنا عدوانيا فهو يرى ان " بفعل العدوانية الاولية التي تؤلب بني الانسان يعضهم على بعض,يجد المجتمع المتحضر نفسه مهددا باستمرار بالانهيار و الدمار...فالاهواء الغريزية اقوى من الاهتمامات العقلية..."

إن العنف لا يدشن التاريخ السياسي فحسب كما رأينا مع هوبز، بل يدشن التاريخ التاريخ الأخلاقي والديني أيضا: يخبرنا فرويد في كتابيه: "الطوطم والطابو" و " موسى والتوحيد" بأن قتل الأب هي الواقعة التي تؤرخ لبداية المؤسسات وحظر المحارم وقواعد التحريم بصفة عامة: لقد كان هذا الأب ذكرا قويا، أبا للعشيرة مستحوذا على نسائها، مقصيا باقي الذكور من أبنائه، الذين لم يجدوا أمامهم من حل سوى الاتحاد لقتله و "أكله". ولكن مشاعر الذنب التي أعقبت قتله ومشاعر الخوف من عودته وانتقامه، دفعتهم إلى تحويله إلى طوطم أي تمثال أو رمز للعبادة، كما حرموا على أنفسهم القتل و التشبه بالأب في الاستحواذ الجنسي على الأم وبناتها أي حظر المحارم... وهي على الجملة عماد الحياة الأخلاقية والدينية. ( يمكنك استحضار امثلة على ذلك" قتل قابيل لهابيل أول حدث يقصه علينا القرآن الكريم و يكسر حالة الحدث التي أعقبت نزول سيدنا آدم إلى الأرض، ليكون بذلك أول حدث عرفه تاريخ الإنسانية"". ما يسمى بعقدة اوديب لدى فرويد قتل الابن لابيه...")

و العنف لم يظهر حسب ماركس إلا كنتيجة للانقسام الطبقي الذي أعقب المشاعة البدائية، وبعبارة أخرى فالصراع الطبقي هو المولد لظاهرة العنف في التاريخ. يقول ماركس: " لم يكن تاريخ أي مجتمع لحد الآن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات، لقد كان المضطهدون والمضطهدون في حالة تعارض ومواجهة وأقاموا بينهم حروبا لا تتوقف تنتهي بتغيير المجتمع برمته أو هلاك الطبقتين المتصارعتين معا" فوجود المجتمع لدى ماركس يتحدد بوجود صراع بين طبقتين اجتماعيتين، الأولى تمتلك وسائل الإنتاج و الأرض و الثانية لا تمتلكها.وفي ظل هذا الصراع ,تغير المتصارعان المتواجهان و لكن الصراع ظل قائما: نجد في المجتمع الروماني القديم طبقتين متمايزتين: هما السادة والفرسان من جهة والأقنان والعبيد من جهة أخرى. كما نجد في القرون الوسطى السادة والشرفاء من جهة، والأقنان والحرفيون العاديون من جهة أخرى؛ وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث، نجد البورجوازية (الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج) في مقابل البروليتاريا. ولن يتسنى إلغاء هذا الصراع العنيف إلا بإلغاء أسبابه ودواعيه وهي الطبقية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، عندها سيحل استغلال الإنسان للطبيعة محل استغلال الإنسان لأخيه الإنسان .بين ماركس إذن أن العنف مجرد ظاهرة تاريخية ناتجة عن الصراع الطبقي الذي هو المحرك الأول لعجلة التاريخ، والمسؤول عن الصيرورة التاريخية والعامل الحاسم في الانتقال من نمط إنتاجي لآخر.سوغ لن يتمكن المجتمع الحديث من القضاء على الصراع بين الطبقات. بقدرما أقام طبقات جديدة و بالتالي اعاد انتاج الصراع و الاضطهاد و العنف من جديد. ويؤكد ماركس" انه عندما يتم حسم هذا الصراع، بنزع الملكية من المالكين السابقين، فان العنف الذي أدمى البشرية منذ مرحلة (ما قبل التاريخ الإنساني)، سيختفي عندما تختفي أسبابه".

المحور الثالث: العنف والمشروعية

اشكال المحور: هل يمكن الحديث عن عنف مشروع وعنف غير مشروعية ؟ من أين يستمد العنف مشروعيته؟ ما الذي يجعل عنفا ما مشروعا؟

يرى ماكس فيبر بضرورة احتكار الدولة للعنف, باعتباره شرطا أساسيا لبقائها والمحافظة على النظام, لكن هذا العنف الذي تمارسه الدولة يبقى وسيلة فقط من أجل الحفاظ على الأمن العام والنظام. ويعني أن الدولة بوصفها تجمعا سياسيا منظما ترتبط بممارسة العنف المادي، وذلك سواء تعلق الأمر بالأنظمة الاستبدادية القديمة أو بالأنظمة الديمقراطية الحديثة؛ أما افتراض وجود مجتمعات لا تعرف العنف فلا يعني سوى غياب جهاز الدولة وسيادة الفوضى..غير أن ممارسة العنف من طرف الدولة العصرية يتم وفقا للشرعية العقلانية والقانونية التي تنظم علاقة السلطة بالمواطنين، أي أنه عنف مشروع يخضع لقواعد متفق عليها غايتها حفظ الأمن وحماية الصالح العام. وبذلك تكون الدولة هي الجهة الوحيدة التي لها حق اللجوء إلى العنف المادي وجعله تحت مراقبتها بحيث لا يحق استخدامه إلا بتفويض منها و هذا ما يؤكده في كلامه:" إن الدولة المعاصرة كجماعة إنسانية في حدود مجال جغرافي محدد تطالب بنجاح و لمصلحتها الخاصة باحتكار العنف الفيزيائي المشروع.ما هو بالفعل خاص بعصرنا هو انه لا يسمح للتجمعات الأخرى أو للأفراد بالحق في اللجوء إلى العنف إلا عندما تسمح الدولة بذلك: اذ تصبح هذه الأخيرة المصدر الوحيد "للحق" في العنف".إن الدولة أو ما يسميه فيبر بالتجمع السياسي لا يمكن تعريفها سوسيولوجيا إلا بالوسيلة المميزة الخاصة بها, ألا و هو "العنف الفيزيائي" فهو الوسيلة الوحيدة للدولة ,بل يذهب أكثر من ذلك ويعتبر العلاقة بين الدولة و العنف "علاقة حميمية جدا" .لكن إلى جانب العنف, فالدولة تلجأ إلى وسائل أخرى سلمية مثل الإقناع والتفاوض والحوار.وقد حدد ماكس فيبر ثلاث أنماط للسلطة التي يمكن من خلالها ممارسة العنف الشرعي تتمثل الأول في السلطة التقليدية التي تقوم على التقاليد المقدسة التاريخية التي درج الناس على احترامها وطاعتها, وتسمى سلطة الامس الازلي او الماضي و تستمد مرجعيتها من سلطة العادات و التقاليد و يمارسها الاب الاكبر او شيخ القبيلة. والثانية :السلطة الكارزمية التي يتفرد بها شخص ما ويحظى بثقة الجماهير نتيجة تجمع بصفات خارقة في شخصه(زعيم سياسي ,العاهل الملهم" تذكر الامثلة حول ذلك"الانبياء, الابطال).أما الثالثة فهي السلطة التي تقوم على الشرعية, وهي سلطة تستمد مرجعيتها من القانون اي الامتثال للواجبات و نجد هذا النوع من السلطة في الدولة الحديثة.

2- موقف غاندي:

يعرف غاندي اللاعنف كموقف كوني تجاه الحياة، إنه "الغياب التام لنية الإساءة تجاه كل ما يحيا" بمعنى أن اللاعنف مثله مثل العنف لا يقع على مستوى الفعل فقط بل والنية أيضا. ولكن كيف نتعامل مع العنيفين والمستبدين و الظلمة؟ يجيب غاندي: عن طريقة المقاومة الأخلاقية والذهنية، أي رفض العنف والامتناع عن ممارسته بالفعل أو بالنية مهما كانت الغايات والأهداف. » فمواجهتي لسيف المستبد كما يرى غاندي لا تكون باستلال سيف أكثر مضاءا وحدة يفله، بل بأن أخيب أمله في أن يراني أواجهه بمقاومة مادية، فهو سيراني بدلا من ذلك أواجهه بمقاومة روحية تفلت من تقديره وتحكمه.و يرى غاندي أن اللاعنف لا يقتصر على غياب الإرادة السيئة اتجاه كل ما يحيا, بل يتعداه إلى الإرادة الطيبة اتجاه كل ما يحيا وهذا هو في نظره هو اللاعنف الفعال.وقد حدد السمة الأساسية للعنف في النية العنيفة أي الرغبة في إلحاق الأذى وقد لاحظ أن العنف لم يفد الإنسانية في شيء, و دعا إلى الجمع بين الحب ومعارضة الشر, فهو ليس تخليا عن الصراع ضد الشر بل العكس كفاح وصراع فعال ضده.

و يؤكد غاندي انه لا يمكن تبرير العنف أو شرعنته، فالإنسان هو حيوان شرعي يريد أن يكون دائماً على حق، والإنسان العنيف يسيطر ليبرر العنف، وليبني عقائد للعنف المشروع بنظره كالدفاع عن النفس وفكرة الآخر المعتدي. وهنا يمكن الحديث عن معنى كلمة اللا في اللاعنف على اعتبارها ترفض أي تبرير للعنف وتنزع أية شرعية عنه وتقطع الطريق على أية صلة بالعنف الذي هو جريمة ضد الإنسانية وليس حقاً من حقوق الإنسان فالسيطرة على هذه الآلية العمياء للعنف مستحيلة، لأن الضرورة لا تبيح الشرعية حتى وإن بدا شرعياً فهو ليس شرعياً.

------------------------------------------------------------- 

       الأستاذة: سميرة بورز يق

الثانوية التأهيلية صلاح الدين الأيوبي

الفئة المستهدفة: ثانية باكلوريا.

عن الكاتب

في رحاب العلوم الانسانية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

في رحاب العلوم الانسانية

2025